انتخابات حاسمة في تركيا.. لماذا؟
12 رجب 1432
د. إبراهيم البيومي غانم

صباح غد الاثنين، سوف يستيقظ الأتراك على واقع جديد لبلادهم بعد انتهاء الانتخابات العامة التي تجري اليوم (12 يونيو2011)، وبعد أن يتم الإعلان عن الفوز الثالث لحزب العدالة والتنمية الحاكم لأول مرة في تاريخ تركيا الحديثة يفوز فيها حزب حاكم بأغلبية تمكنه من تشكيل الحكومة منفرداً. أما صباح اليوم الأحد فسيتوجه الناخبون الأتراك للإدلاء بأصواتهم فيا يعتبرونه انتخابات»حاسمة» يشارك فيها 15 حزباً، و7.695 مرشحاً يتنافسون على 550 مقعداً هي مجموع مقاعد البرلمان، ويبلغ عدد من لهم حق التصويت 50 مليونا و189 ألف ناخب.

 

 

لو أنك زرت تركيا كما فعلت أنا في الأسابيع القليلة الماضية لوجدت أنها تعيش في «عرس ديمقراطي» مبهر، وسوف تتمنى -وخاصة إن كنت عربياً مثلي- أن يأتي اليوم الذي تنعم فيه بلادنا بهذه النعمة التي تسمى «الانتخابات الديمقراطية الحرة»؛ حيث الفرص متساوية أمام جميع الأحزاب المتنافسة كي تعرض برامجها على الموطنين بمختلف وسائل الإعلام، وبحرية تامة. ولكنك قد تفاجأ مثلي بمن يقول لك إنه غير راض عن الديمقراطية التركية حتى الآن، ففي رأي د.خديجة -أستاذة القانون الخاص بالأكاديمية الوطنية التركية للشرطة- أن الديمقراطية لم تتجذر في الممارسات الاجتماعية، وقالت أيضاً إن تقاليد الحوار وقبول الرأي الآخر لا تزال ضعيفة، ولا تزال الأحزاب السياسية منعزلة عن هموم المواطنين، ومتجهة فقط إلى الاستحواذ على السلطة. وتقول: «الديمقراطية تفترض التعددية، والشفافية، والثقافة المجتمعية القائمة على مباديء الحوار واحترام الآخر، ومجتمعنا لا يزال بعيد عن ذلك». ولا تستثني خديجة حزب العدالة من بعض الانتقادات التي تشير فيها إلى ضيق صدر أردوغان بمنتقديه يوما بعد يوم، وزجه بأعداد من الصحفيين في السجن لتطاولهم على شخصه.

 

 

ولكن خديجة وهي تعبر عن آراء غير حزبية في تركيا، تؤكد ـ من جهة أخرى ـ أن أفضل الأحزاب هو العدالة والتنمية، وأن الأحزاب الأخرى تعاني من الإفلاس، وتضرب مثلاً بنكتة سياسية يتداولها النشطاء السياسيون على مواقع التواصل الاجتماعي ، وهي تقول على لسان أحمد كليتشدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري أقوى أحزاب المعارضة إن «الانتخابات في شهر رجب (الحالي) مؤامرة من «رجب» رئيس الحكومة، يريد أن يستغل بها مشاعر المواطنين الدينية!!. وهذا يذكرك بالحجج التي تسوقها القوى السياسية العلماينة الفاشلة لتبرر بها إخفاقاتها المتكررة في مواجهة التيارات الإسلامية في البلدان العربية.

 

 

نتائج آخر استطلاع قامت به مؤسسة كوندا «CONDA» تقول إن العدالة والتنمية سيفوز بـ 46.5 في المئة، وسيفوز منافسه القوي حزب الشعب الجمهوري بـ 26.8 في المئة، وحزب الحركة القومية بـ 10.8، أما حزب السلام الديمقراطي (ذي النزعة الكردية) فسوف يحصل على 6.7 في المئة فقط ما يعني أنه سيخرج من البرلمان القادم لعدم تحقيقه نسبة 10 في المئة التي تسمح له بالتواجد فيه طبقاً للقانون. مؤسسة «كوندا» أجرت هذا الاستطلاع في الفترة من 3ـ 5 يونيو الجاري، ضمن سلسلة استطلاعات بلغت 16 حلقة بدأتها حول هذا الموضوع في مارس 2010، وشملت حتى هذا الاستطلاع الأخير 46.000 من المواطنين الأتراك. ولهذا فإن هذه النتائج تحظى بدرجة عالية من المصداقية لدى مختلف الأوساط السياسية والإعلامية التركية.

 

 

في تركيا يقولون إن هذه الانتخابات حاسمة: فإما أن يقرر الشعب التخلص نهائياً من بقايا الدولة العميقة والنظام التسلطي، وإما أن تنتكس الجهود الرامية إلى تحقيق هذا الهدف.

 

 

أسباب الحسم في هذه الانتخابات متعددة، وهي تتلخص في أن الأتراك يرغبون في الاطمئنان على مستقبل بلدهم لعشرين عاما قادمة، ويرون أن ذلك يتطلب الحسم في ثلاث قضايا كبرى هي:

 

 

1ـ إعادة كتابة دستور للبلاد يضعها في مصاف الدول الديمقراطية الراسخة.

2ـ وحل المسألة الكردية حلاً على أسس ديمقراطية وعادلة.

3ـ وتأمين مصادر مستدامة للطاقة إلى جانب مستويات معيشية وخدمات عامة وفرص عمل مناسبة لأغلبية المواطنين.

 

 

مسألة كتابة دستور جديد للبلاد؛ باتت مرهونة بفوز حزب العدالة والتنمية الحاكم بنسبة كبيرة تمكنه من صوغ هذا الدستور وفق معايير الديمقراطية وحقوق الإنسان دون أن تتمكن أحزاب المعارضة التقليدية من عرقلته. ولاحظ معي أن المجتمع السياسي التركي (حكومة ومعارضة) مضى في الإصلاحات السياسية والاقتصادية وحقق إنجازات هائلة داخليا وخارجياً على مدى السنوات التسع الماضية من حكم العدالة والتنمية. ولم يتوقفوا (لا حكومة ولا معارضة) بحجة أن الدستور أولاً ـ كما يفعل البعض عندنا ـ بينما هم في حقيقة يخفون فشلهم وعجزهم عن طرح برامج إصلاحية تقبل التطبيق وتحقق مصلحة القطاعات الواسعة من المواطنين.

 

 

حزب العدالة والتنمية يبدو من خطابه السياسي وبرنامجه الانتخابي أنه قد سئم من الحوار مع أحزاب المعارضة ومن تعاونها في إنجاز مشروع الدستور الجديد. وهذا ما نقرأه مثلاً في تأكيد رجب طيب أردوغان في حملاته الانتخابية على أن حزبه يسعى للفوز بثلثي مقاعد البرلمان؛ أي بـ367 من 550 مقعداً، وبنسبة 66 في المئة من تلك المقاعد تقريباً، أو ما يعادل 52 في المئة من أصوات الناخبين!. ولكن هذه النسبة تبدو غير واقعية وغير ممكنة في ظل احتدام المنافسة واحتشاد خصوم العدالة والتنمية، إلى جانب بعض السلبيات التي بدأت تتسرب إلى داخل حزب العدالة ذاته، بما في ذلك دخول بعض العناصر الانتهازية الساعية لتحقيق منافع خاصة على حساب المنفعة العامة. ومع ذلك فإن الممكن الذي تكاد تجمع عليه استطلاعات الرأي هو الحزب سيفوز بنسبة لا تقل عما حققه في انتخابات 2007 وهي حوالي 47 في المئة من مقاعد البرلمان.

 

 

رسمياً تقول أحزاب المعارضة إن انفراد حزب العدالة بوضع دستور جديد أمر غير ديمقراطي. ويرد حزب العدالة على ذلك بالتأكيد على أنه حتى لو فاز الحزب بأغلبية ثلثي مقاعد البرلمان التي تمكنه من تمرير الدستور الجديد منفرداً؛ فإنه سوف يطرحه لاستفتاء شعبي، وسوف يشكل ـ قبل ذلك ـ لجنة دستورية تضم أعضاء من الأحزاب الممثلة في البرلمان، وتستمع إلى اقتراحات وأفكار مؤسسات المجتمع المدني وأساتذة القانون ورجال الفكر والسياسة وقادة الرأي.

 

 

في الواقع أن ما يجعل أحزاب المعارضة تقف بقوة ضد مشروع دستور جديد لتركيا هو أن تحقيق هذا الهدف يعني ببساطة طي صفحة الاستعلاء النخبوي الذي مارسته هذه الأحزاب على الشعب لعقود طويلة صاحبها الفشل وانتشر فيها الفساد وتدهورت الأحوال المعيشية لأغلبية المواطنين.الشعارات الانتحابية لا تزال تحمل هذا النفس الاستعلائي؛ أحدها لحزب الشعب الجمهوري يقول:» لن أصوت لحزب العدالة لأن لدي عقل»، وآخر يقول « لا نريد رعاة الغنم ولا رجب»، ومثل هذه الشعارات تزدري ما يقرب من 17 مليونا تركيا يصوتون لحزب العدالة والتنمية!.

 

 

والمثير في المشهد الانتخابي التركي خلال الأسابيع الماضية ليس فقط اصطفاف أحزاب متناقضة فكرياً وأيديولوجياً في خندق واحد ضد حزب العدالة والتنمية (حزب الشعب الجمهوري اليساري النزعة، مع حزب الحركة القومية المتشدد، مع حزب السلام الديمقراطي الكردي...إلخ) لتخفيض نسبة نجاحه المرتقب؛ وإنما الملفت أيضاً تأييد أوساط نافذة في الإعلام الأوربي لتلك الأحزاب في مواجهة حزب العدالة.

 

 

مجلة «ذي أكونوميست» البريطانية النافذة ـ في عددها الصادر بتاريخ2 يونيو الجاري ـ دعت الأتراك صراحة إلى التصويت لصالح حزب الشعب الجمهوري المعارض، معتبرة أن إعادة انتخاب حزب العدالة والتنمية «مثير للقلق.. ليس لأسباب دينية وإنما ديمقراطية» بحسب قولها؛ الأمر الذي دفع أردوغان إلى شن هجوم شرس ضد المجلة أثناء جولته الانتخابية في مدينة قونيا، وربط بين المجلة و»إسرائيل» وخصمه السياسي زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كيليتشدارأوغلو، الذي سبق أن أرسل تهنئة لـ»إسرائيل» بمناسبة إعلان قيامها في 15 مايو الماضي. ومن جانبه قام وزير الخارجية أحمد داود أوغلو -الذي يخوض الانتخابات البرلمانية في مدينة قونيا- بتوجيه الاتهام إلى الإيكونوميست بانتهاك أخلاقيات الصحافة الدولية.

 

 

أما بالنسبة للقضية الكردية، فلدى حزب العدالة والتنمية رؤية لحلها حلاً شاملاً في إطار وحدة الدولة التركية وعلى أسس منفتحة تتجاوز سلبيات السياسات القومية المتشدد التي مارستها الحكومات الكمالية منذ تأسيس الجمهورية، وأدت إلى تهميش المناطق الشرقية من البلاد التي يقطنها الأكراد، وحرمت أغلبيتهم من التعليم والرعاية الصحية والمشروعات الإنتاجية. وفي رأي الدكتورة خديجة أن الأحزاب الكردية لم تفعل شيئاً للأكراد، ولا تعنيها مشكلات الأمية والمرض والبطالة التي يعاني منها أبناء الأكراد. وترى أن هذه الأحزاب تسعى فقط لمنافع خاصة وسلطوية، ولهذا ـ والكلام لها ـ فإن أغلب الأكراد يرون أن أفضل الأحزاب هو حزب العدالة والتنمية؛ لأنه قادر على استيعابهم في النظام السياسي وحل مشكلاتهم على أسس ديمقراطية. وقالت أنا شخصياً سأصوت للعدالة والتنمية في هذه الانتخابات.

 

 

القضايا الاقتصادية هي الأسهل بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، وإنجازاته فيها هي حجته الأقوى التي يواجه بها خصومه السياسيين المنافسين له. فهو لا يحتاج إلى جهد كبير لإقناع الناخب التركي بأنه «بطل الاستقرار»، وأن مستقبله معه وليس مع أحزاب المعارضة. وما تحقق على مدى السنوات التسع الماضية يؤكد نجاح حكومة أردوغان في تطوير الأداء الاقتصادي وإعادة توزيع الثروة وفق سياسات أكثر عدالة وتوازنا من ذي قبل، إضافة إلى تحقيق معدلات عالية للتنمية بلغت 8.9 في المئة في العام 2010 ، مع تراجع نسبة البطالة إلى 11.5 في المئة في الفصل الأول من هذا العام 2011.

 

 

أحزاب المعارضة الرئيسية، باتت مقتنعة ـ فيما يبدو ـ هي الأخرى بأن فوز حزب العدالة والتنمية أمر محقق؛ ومع هذا فإنها لم تيأس من محاولة وضع العصي في عجلة الإصلاح التي تقودها حكومة أردوغان. فالشغل الشاغل لهذه الأحزاب وفي مقدمتها حزب الشعب الجمهوري، تركز خلال الأسابيع الماضية باتجاه واحد فقط هو «محاولة تخفيض نسبة نجاح الحزب الحاكم» إلى ما دون نسبة 47 في المئة التي حصل عليها في الانتخابات السابقة سنة 2007. نعم تتمنى أحزاب المعارضة التركية إسقاط حزب العدالة في هذه الانتخابات، ولكنها تعرف أن أمنيتها هذه مجرد سراب لا يمكن إدراكه هذه المرة على الأقل.

 

 

كنت أظن أن موقف الحكومة التركية من الثورات العربية سيكون حاضراً بقوة في اهتمامات الأحزاب المتنافسة والناخبين في تركيا، ولكن هذا الحضور ليس بالقوة التي كنت أتوقعها. هناك ترحيب شعبي واسع بالثورات العربية، ولكن هناك أيضاً توجساً من أن تؤدي النزاعات في بعض البلدان مثل سوريا وليبيا إلى التدخل الأجنبي. وأياً كانت تحفظاتنا على مواقف السياسة التركية تجاه الثورات العربية؛ فإن مسار تجربة التحول الديمقراطي التركي عبر صناديق الاقتراع تستحق منا المزيد من التأمل لنتعلم منها.

 

المصدر: السبيل الأردنية