قال العرب في أمثالهم المأثورة: (لكل صارمٍ نَبْوةٌ ولكل جوادٍ كَبْوةٌ)، إلا أنهم لم يحددوا الفرق بين كبوة عابرة وأخرى قد تمنع الجواد عن النهوض مجدداً. وربما كانت الكبوة التي وقعت فيها حكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا مؤخراً من النوع الثاني. فموقفها من ثورة الشعب الليبي على الطاغية معمر القذافي بدأ غامضاً وملتبساً في الفترة المبكرة من عمر الانتفاضة، ثم انجلى عن انحياز مكشوف لنيرون طرابلس لم تفلح المراوغات اللفظية في إخفائه.
ومن المعلوم للكافة، أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان هو أول سياسي تركي يحظى بشعبية هائلة في العالمين العربي والإسلامي بين سائر شرائح المجتمع بما في ذلك عامة الناس ممن يندر اهتمامهم بالسياسة حتى المحلي منها!!
وقد استأثر أردوجان وشركاؤه في حزب العدالة والتنمية بتقدير الأمة، منذ صعود نجمهم قبل ثمانية أعوام عندما فازوا بالانتخابات النيابية في بلدهم، الذي احتكرته النخبة المتغربة بأطيافها منذ الطاغية أتاتورك. فالحزب ذو المرجعية الإسلامية حزب نظيف خَدَمَ شعبه بنزاهة سياسياً واقتصادياً، وأطلق رحلة مضنية لكنها موفقة وهادئة لإعادة تركيا إلى جذورها وسط ركام ضخم من إرث التغريب الشرس والسيئ.
وانبهر الناس بأردوجان وزملائه وحزبهم إذ جمعوا الصدق مع الحنكة، ونظافة اليد مع الجرأة، وتألقوا بخاصة بعد دفاعهم الجاد بشرف عن الحقوق العربية والقضايا الإسلامية ولا سيما في أثناء العدوان اليهودي الصلف على غزة الباسلة، ولعل مناصرتهم لثورتي مصر وتونس تُعَدّ أحدث صفحاتهم المشرقة.
من كل ما سلف يتجلى حجم الصدمة التي أوقعها موقف أنقرا الأخير من ثورة أحفاد المجاهد عمر المختار، فمحاولة تعويم القذافي هي النشاز الفاقع عن سيرة طيبة وسمعة عطرة.
وما زاد الأمر سوءاً أن مناصرة أنقرا للطاغية الفظيع جاءت في أسوأ توقيت:
فالليبيون جميعاً ضده-باستثناء حفنة من المرتزقة وقلة مغلوبة على أمرها بالحديد والنار ، والعرب الرسميون التقوا لأول مرة مع شعوبهم على مناوأته علانية إلى حد الطلب من الأمم المتحدة فرض حظر جوي على طيرانه المجرم حتى لو اقتضى ذلك استخدام القوة لكبح شهوته إلى إراقة دماء مواطنيه العزل. كما اجتمعت البشرية كافة بمن فيها أصحاب المصالح معه مثل روسيا والصين على نبذه ورفض استمرار تسلطه على رقاب الليبيين.
بل إن موقف أردوجان غير الموفق أتى في ذروة انشقاقات الدائرة الضيقة اللصيقة بالقذافي فقد تخلى عنه دبلوماسيون كبار وضباط ذوو رُتَبٍ رفيعة، وآخرهم حتى اللحظة موسى كوسا وزير خارجيته الفارّ بجلده إلى لندن عبر رحلة علاج زائفة إلى تونس. .
أما الذرائع التي يتخفى وراءها الموقف التركي البائس فإن لدى حزب العدالة من الفطنة ما يكفي لإدراك تهافتها، بدءاً من ذريعة الحفاظ على وحدة ليبيا وانتهاء بوقف نزيف الدم الليبي.
فما من أحد يهدد وحدة ليبيا سوى الديكتاتور وأبنائه، والمعارضة تصر على وحدة التراب الليبي، كما أن دعوة أردوجان لوقف إطلاق النار ليست أكثر من مقدمة لتقسيم ليبيا بين غرب يستبد به القذافي وعصاباته، وشرق في أيدي الثائرين!! وهل يود أردوجان إقناعنا بأن القذافي الذي يكابر ويمضي في وحشيته الدموية تحت وابل نيران الأطلسي، سوف يكون حَمَلاً وديعاً عندما يتحرر من الضغط العسكري على مرتزقته؟!
إن على تركيا مسؤولية أخلاقية كبرى في القضية الليبية تتناقض جذرياً مع مسلكها الراهن:فهي دولة إسلامية-وليست أي دولة إذ كانت ليبيا جزءاً من الدولة العثمانية حتى الغزو الطلياني في عام1911م-وتركيا هي العضو المسلم الوحيد في الناتو الذي يقود العمليات العسكرية لِلَجْمِ آلة القذافي العدوانية منذ تخلي أمريكا عن قيادة الحملة مؤخراً، وبينما يفترض في أنقرا أن تتصدر الصفوف للذود عن شعب مسلم مظلوم، رأينا الحلف يتباطأ في عملياته لحسابات نفعية رخيصة لبعض أعضائه وسوف يُلْقى الوزر على كاهل تركيا المتحمسة لإنقاذ الطاغية بكل السبل المتاحة!!
فالغرب المنافق اضطر إلى التخلي عن عميله القذافي بما في ذلك إيطاليا بزعامة برلسكوني شريك العقيد في نهب ثروات ليبيا والبطش بشعبها، فها هي روما تمتطي الموجة وتتظاهر بتأييد الشعب ضد حليفها، وذلك لأنها تدرك أن هزيمته حتمية!! فإذا تخلت حكومة أردوجان عن أصالتها الأخلاقية فهل غاب عنها الذكاء النفعي الذي تمتع به برلسكوني زير النساء المتباهي بعدائه الوقح للإسلام والمسلمين؟
إنها كبوة باهظة الثمن على مختلف الصعد والمستويات، وقد تنسف رصيد أردوجان الكبير كله، وبخاصة إذا كرر غلطته الفادحة إزاء ثورة الشعب السوري كما توحي بعض المؤشرات الأولية.