قرون استشعار الطغاة دائماً قصيرة رغم كل الأجهزة الأمنية والاستخبارية التي تقمع شعوبهم وتعد على الناس أنفاسهم.. بعضهم لا يبدأ في الفهم بعد كل المؤشرات الدامغة على أن عرشه بدأ يتزعزع إلا بعد أن يكون هدفاً لطلقات الأحذية تنهال على وجهه المنعكس على شاشة عرض كبيرة في ميدان للمعتصمين ضده.
كم من رئيس لا يفهم الدرس إلا بعد يصبح مادة للتندر والفكاهة والإهانة التي لا "يدانيه" في مستواها أي صعلوك صغير في أي من أرجاء دولته. وحينما تزحف الجماهير باتجاه قصره ومقرات أركان حكمه، وقتها يبادر إلى اتخاذ خطوات مرتجلة ومضطربة لا تشفي غليل المشاهدين فيتحسسون أحذيتهم مرة أخرى لرجمه، وقد كان في بحبوحة قبلها وباستطاعته تقديم أدنى من ذلك بكثير قبل أن يصبح رحيله مطلباً لا رجعة عنه، وإسقاط نظامه أمراً لابد منه لكي تستقيم الحياة.
والذين خرجوا في سوريا قبل أيام منادين بالحرية، والذين شيعوا شهداءهم الأبرار، ربما كان يكفي بعضهم إشعاراً من النظام هناك بأنهم آدميون يستحقون واجب العزاء في شبابهم الحر، وقد كان يروق لأكثرهم تغيرات لا تسقط نظاماً بل تعززه بشيء من الانصاف والعدل، لكن مثل هذه الأحلام البسيطة لا يراها المتجبرون أبداً، ولا يستشعرون أهميتها، ودونها لديهم خرط القتاد.
في مصر بعيد أيام من ثورة تونس، كنا نقرأ للدكتور علي الدين هلال أحد أقطاب لجنة السياسات بالحزب الوطني الحاكم يقول أن مصر لن تكون تونس، والثورة القادمة من الغرب العربي عليها أن تتعلم من نظام مبارك الحرية! وأبى الرئيس أن يذرف دمعة على الشباب الشهداء، والتحف النظام بمقولات عن "الأجندات" و"المؤامرة" و"مصر المستهدفة" و"المندسين"، وجيش كل وسائل الإعلام للإيحاء بأن كل الشعب يؤيده، لكننا رأينا هذا الشعب نفسه في التحرير يرفع 3 مليون زوج حذاء في وجه مبارك في خطابه الأخير في تصويت لم يشهد العالم مثله.
أما في سوريا؛ فلقد ظن نظامها أنه بتسيير الآلاف عنوة، وحشد الأقليات في ميدان دمشق وحلب (للمدينتين دلالة قوية على هوية تلك التظاهرات)؛ فإنه سيتحاشى مصيراً بدا الرفيقان القذافي وصالح مقدمين عليه، بعد أن استنفدا كل هذه "الإجراءات"، وتراءى له ـ مثلما كان يحصل بالضبط في مصر وتونس واليمن ـ أن هدوء ما قبل "الجمعة" دليل على أن رجال النظام قد نجحوا فيما عجز فيه الآخرون، وأن اختبار القوة وتكشير الأنياب وإلقاء تهم الخيانة على الثوار، وتهديدهم بعظائم الأمور، واجترار خطاب التحذير من "الفتنة"، الذين سقطوا فيها جميعاً من قبل، وجلب الأراجوزات في "المجالس البرلمانية" كفيل بأن يئد تلك "الفتنة" ويعيد الثائرين إلى "الجحور"، لكنه سيفاجئ أن عجلة التاريخ قد دارت ولم يعد بمقدور الطغاة إيقافها، ليقولوا اليوم "ما فهمتكم"، لا بأس، سيقولون غداً "فهمتكم" لكن ـ كالعادة ـ بعد فوات الأوان.. الآن، يمزق الشعب صور الرئيس، ويسقط أصنام عبادة الفرد في دولة العسف والحيف بالشوارع، وهي لا تبدو كافية ليفهم النظام، إذ لابد للأحذية أن تطير أولاً حتى تبدأ ماكينة فهم أنظمة الطغيان بالعمل!!