الوحشية التي يقاوم بها العقيد القذافي معارضيه لا تعبر فقط عن ساديته وعشقه "الأبدي" للسلطة وتمسكه به حتى الرمق الأخير وحتى آخر قطرة من دم شعبه، إنما تعبر بالأساس عن العقيدة القتالية التي تسكن رأس "الزعيم الثائر"؛ فالرجل الذي كان يفتخر في آخر القمم العربية بأنه "عميد الحكام العرب" وهي معرة كان ينبغي له أن يستحي منها لأنها لا هي نتاج اختيار شعبي في نظام حر، ولا هي استحقاق نظام ملكي ينص دستوره على ذلك، لا يرى في جيشه الذي عمل عقود ا على تسليحه إلا جهازاً أمنياً قمعياً احتياطياً لا وظيفة له إلا حالما تخفق الأجهزة الأمنية في مهامها الإجرامية.
ولكيلا نظلم القذافي، فهو لا يمثل حالة منفردة في نظرة بعض القادة العرب لجيوشهم، وغيره آخرون يشطبون بدم شعوبهم الطاهر المهمة العظيمة التي تتحملها الجيوش الوطنية المتصالحة مع شعوبها.
ومهمة الحفاظ على الأوطان وحماية الحدود، وتفعيل اتفاقات الدفاع المشترك التي نساها العرب في زحمة استباقهم إلى أعتاب الغرب وهرولتهم باتجاه "إسرائيل"، أضحت في آخر اهتمامات تلك الجيوش، أو للدقة لم تعد تحكم تحركات قادتها المرتهنين للعواصم الغربية من دون سائر المراتب الدنيا والكتلة الكبرى من جسد تلك الجيوش المغيبة عن واجباتها الحقيقية في الدفاع عن الأمة العربية والإسلامية وكبح جموح المخططات "الاستعمارية" الرامية إلى سرقة أوطاننا العربية والإسلامية أو تقسيمها.
إن المقارنة في غاية البؤس، إذا ما وضعنا في خاناتها عدد الاجتماعات التي ضمت وزراء الدفاع العرب النادرة مقارنة بوزراء الداخلية الذين تلتئم دوماً اجتماعاتهم الدورية للتنسيق في شأن التعاطي مع المشكلات "السياسية" والجنائية، هذا إذا قارناه مثلاً بالناتو الذي يجتمع دورياً فيما تتراجع اجتماعات الأمن الداخلي لحساب المصالح العليا والقارية لأوروبا.
المفارقة في تلك المقارنة ـ كما قلنا ـ بئيسة، إذ سرعان ما يتبين لأي متابع أن دولنا العربية هي التي تعاني بقوة من مخططات التقسيم والاحتلال، ما بين عراق ممزق بين الغرب وإيران، وفلسطين المبيعة للصهاينة، والسودان المنشطر والمرشح لمزيد من الانشطارات، والصومال الذي تم تسليمه للإثيوبيين سواء في الأوجادين أو بالداخل، واليمن ولبنان اللذين يعانيان من أخطار إقليمية حقيقية، والعديد من الجزر والبلدات المحتلة الصغيرة في كل من الإمارات ومصر والمغرب واليمن، وأخيراً هذا البلد الذي يستهدف فيه الطاووس أبناء شعبه قتلاً، وتشريداً، وتجويعاً، وتخويناً، فيما أعقاب بنادقه متجهة إلى السواحل، حيث البوارج الغربية لم تعد منها ببعيد. إنه الدور الوظيفي لبعض الجيوش التي اطمأنت إلى رضا الغرب عنها فالتفتت إلى شعبها فإذا هي في النهاية على شفا هلكة بعد أن ابتاعت الوهم وانكفأت خائبة.