تغليب "الأمن السياسي" علي "الجنائي" أحد أسباب الثورات العربية
7 ربيع الثاني 1432
جمال عرفة

برغم كل ما حققه الثور المصريون منذ إندلاع الثورة يوم 25 يناير من تنحية أغلب رموز النظام السابق وتقديمهم للمحاكمة ، فلم يعتبر كثيرون من شباب الثورة الذين تضرروا من مظالم النظام السابق أنهم أنتصروا بالفعل إلا عندما نجحوا علي مدار يومي السبت والأحد الماضيين في التقاطر علي مقار جهاز مباحث أمن الدولة وإقتحامها ومنع حرق كل الوثائق والمستندات التي تدين الجهاز وتسليمها للجيش معلنين سقوط "دولة" أمن الدولة .

 

وبرغم كل ما حققه ثوار تونس من مكاسب ، فلم يهدا لهم بال حتي أعلن الرئيس المؤقت عن حل جهاز الأمن السياسي أو أمن الدولة وتشكيل لجنة لصياغة دستور جديد .

 

فهذا الجهاز الأمني الذي تحول الي جهاز أمن النظام لا الشعب أو الدولة ، وسخر كل إمكانيته فقط للتنكيل بمعارضي النظام والتجسس عليهم ، غلب (الأمن السياسي) علي (الأمن الجنائي) ، ما نتج عنه مساوئ عديدة .

 

فتغليب الأمن السياسي أدي لتجريف الحياة السياسية تماما ووضع كل المعارضين وعلي رأسهم القوي الاسلامية في السجون وتزوير الانتخابات لصالح الحزب الحاكم ، والتحكم في المناصب الكبري والصغري في كل مؤسسات الدولة المختلفة وحتي المصالحة الخاصة ما خلق حالة من الفساد السياسي والاخلاقي والانسداد السياسي .
كما أن تجاهل الأمن الجنائي أدي بالمقابل لانتشار مظاهر إنحلالية وفساد وتجارة المخدرات والجنس وانتشار ظاهرة البلطجة التي لقيت روجا وأصبح لها تسعيرة محددة في المواسم الانتخابية أو لتأديب جهات لجهات أخري في غيبة الشرطة والأمن الجنائي الذي أصبح مسخرا فقط لخدمة الأمن السياسي !.

 

فضلا عن انتشار ظواهر لم تكن موجودة سابقا في العالم العربي خصوصا الفقر الشديد والعشوائيات والعنوسة والبطالة والبلطجة وغيرها .
وكان ما كشفته الوثائق التي عثر عليها شباب الثورة في مقار أمن الدولة في مصر علي سبيل المثال تؤكد وجود الاف الملفات لكل ما يجري على أرض مصر، بداية من غرف النوم وحتى صنع القرار .. ملفات عن السياسيين والفنانين والقضاة ورجال الاعمال والطلبة، ملفات عن طلاب فلسطين وليبيا والتعذيب مع الولايات المتحدة، الهدف منها جميعا ليس مكافحة الفساد وانما حماية النظام ورئيسه.

 

والتوصيات التي كانت تكتب على الوثائق من قبل المسؤولين تفيد بكيفية التعامل مع المواقف لصالح النظام الحاكم لا لصالح مصر الدولة والشعب ، اضافة الى ان هناك معلومات يتم جمعها عن اشخاص لا يعرف أحد لماذا ؟ ويبدو أنها كانت ضمن عمليات تصفية حسابات خاصة مع معادين لرموز موالين للنظام .

 

غياب الأمن الجنائي
علي سبيل المثال أندلعت في مارس 2004 معركة في قرية (النخيلة) التي تبعد 30 كيلو مترا من مدينة أسيوط (جنوب مصر) دارت بين الآلاف من قوات الأمن المصرية والعشرات من تجار المخدرات والخارجين عن القانون أو(المطاريد) كما يسمونهم في صعيد مصر، وكانت من أشرس وأعنف المعارك التي خاضتها الشرطة المصرية منذ انتهاء الصراع بينها وبين الجماعات الإسلامية المصرية منتصف التسعينات من القرن الماضي .

 

وكان ملفتا أن معركة (النخيلة) التي أنتهي الجزء الأكبر منها بسقوط زعيم المجموعة الإجرامية شهدت استخدام أنواع ثقيلة من الأسلحة من الطرفين ضمت – وفق من نشرت الصحف المصرية ومراسلين رافقوا قوات الأمن - صواريخ أر.بي.جي ، ومدافع هاون وجرينوف غير الرشاشات والقنابل وأنابيب الغاز (الطهي) والمدرعات ، وكذلك الطائرات لرصد المجرمين ،علي عكس المواجهات مع الجماعات الإسلامية التي كانت تقتصر غالبا علي إطلاق الرصاص والقنابل .

 

وتم اقتحام قرية (النخيلة) من قبل رجال الشرطة بالمدرعات وباستخدام أسلحة ثقيلة من قذائف (ار بي جي) الصاروخية ومدافع رشاشة ثقيلة وهاون لقصف معاقل عائلة أولاد علي حنفي ، وأسفر القصف عن تهدم 5 منازل كان يحتمي بها أفراد من العائلة ، كما هدد المجرمون بالمقابل باستخدام (أسلحة ثقيلة) في حالة استمرار هجوم قوات الشرطة ولوحوا باستخدام الرهائن الذين يصلوا لنحو 2000 مواطن كدروع بشرية ضد الشرطة والتهديد بقتلهم ما كشف عن تضخم حجم الجريمة في وقت كان جهاز أمن الدولة لا يهتم سوي برصد لقاءات المعارضة والتنصت علي هواتف الصحفيين والسياسيين ، ويتعاون مع البلطجية وتجار المخدرات علي حساب الأمن الجنائي بهدف ضرب قوي سياسية ومنعها من الفوز في الانتخابات !!.

 

الأمن الجنائي ضحية لـ "السياسي" !
ومرة أخري تأكد بعد هذه الحادثة أن سبب استفحال ظاهرة هؤلاء البلطجية من تجار المخدرات ترجع لإغفال الأمن الجنائي لصالح السياسي ، فمعركة النخيلة كانت بمثابة دليل حي علي الخلل الناجم عن تركيز قوات الأمن المصرية - خاصة طوال فترة الثمانينات والتسعينات - علي الأمن السياسي وإهمال الأمن الجنائي ، وأنها نتاج لهذه الخلل حيث اهتمت أجهزة الأمن المصرية بالجانب السياسي وراحت تلاحق الجماعات الإسلامية وقوي سياسية مصرية أخري وتعطي هذا الملف أهمية فائقة انعكست علي إهمال تدريجي للأمن الجنائي نتج عنه زيادة أنشطة تجار المخدرات في مصر بشكل كبير .

 

ورغم هذا لم يجري التنبة لهذا الخلل واستمر تجاهل الأمن الجنائي لصالح السياسي في السنوات العشر الاخيرة بصورة مبالغ فيها ( هناك فيديوهات وتسجيلات جنسية وجدت في الجهاز هدفها الابتزاز ما يشير لحالة الجهاز ) .
ولم يكن غريبا أن يعلن الدكتور هاني الناظر رئيس المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في فبراير 2003 إن حجم تجارة المخدرات يتراوح بين 4 مليارات و6 مليارات دولار سنويا، طبقا لإحصائيات المركز ) .
وبموازاة ذلك انتشرت تجارة السلاح والفساد المالي في البنوك وغسيل الأموال والجرائم الأخلاقية بشكل كبير حتى أن الشرطة المصرية ذكرت أن مقر العائلة التي تطاردها الشرطة المصرية ( أولاد علي حنفي) كانت مركزا لبيع السلاح كما تم وضع مصر في اللائحة السوداء للدول المتهمة بتسهيل غسيل الأموال بعدما بلغ حجم التجارة غير المشروعة في مصر – وفق تصريح لوزير العدل المصري أكتوبر 2002 – 30% من حجم التجارة !.
وسبق أن كشفت عشرات الحوادث الجنائية عن انتشار تجارة السلاح بين المجرمين بشكل خطير خصوصا في صعيد (جنوب) مصر حيث تكثر جرائم الثأر ، كذلك كشفت حادثة قتل المطربة التونسية (ذكري) علي يد زوجها بـ 81 طلقة في يناير الماضي 2004 عن امتلاك زوجها ترسانة مصغرة من الأسلحة في منزله .

 

وبالإضافة لما حصل عليه تجار السلاح من أسلحة في الحروب المصرية المختلفة التي دارت في سيناء ، هناك العديد من قضايا تهريب السلاح التي جري اتهام صهاينة فيها مثل الشبكة الصهيونية التي قدمت لمحكمة جنوب سيناء عام 2000 وضمت خمسة "إسرائيليين" متهمين بتهريب أسلحة إلي مصر 

 

وحول قضية انشغال الأمن المصري بالأمن السياسي علي حساب الأمن الجنائي ، يؤكد الدكتور "عصام العريان"- القيادي البارز في جماعة (الإخوان المسلمون)- أن انشغال أجهزة الأمن المصرية بمطاردة السياسيين والجماعات الإسلامية على مدى أكثر من خمسين عامًا أدى إلى تفشي الظاهرة الإجرامية ، وأنه منذ ثورة يوليو 1952 وحتى الآن ، كان الاهتمام منصبًّا على تأمين النظام، ومطاردة كل الجماعات السياسية التي تستهدف تقويض أركان النظام، أو تسعى إلى المشاركة في الحكم، ومن هنا كان الإهمال الشديد للأمن الجنائي .

 

ويقول أنه برزت ظواهر إجرامية متكررة استفحلت بعد انتهاء حرب أكتوبر عام 1973م، كما شهدت مصر موجاتٍ من جرائم المخدرات، والفساد الإداري، والجرائم الأخلاقية، وغسيل الأموال، وتجارة الرقيق الأبيض؛ بسبب الإهمال الشديد في تعقُّب الظواهر الإجرامية".

 

وكانت أحزاب وقوي سياسية مختلفة تتهم الحكومة المصرية دوما بتغليب الجانب السياسي في العمل الأمني ( اعتقالات – تعذيب – مطاردة نشطاء سياسيين) علي الجانب الجنائي ما أدي لاستفحال الجرائم الأخلاقية ، والجرائم الاقتصادية ، والجنائية ، وكان الرد الغالب دوما من وزراء الداخلية المصريين أن هذا غير صحيح بدليل ما يرد في تقرير الأمن العام المصري حول ضبط العديد من الجرائم ، بيد أن سقوط جهاز أمن الدولة في مصر وتونس كشف عن أن تغليب الجانب السياسي علي الجنائي في جهاز الأمن وما نتج عنه من مفاسد كان أحد مفاتيح الثورة الشعبية