بحسب عدسات الفضائيات وتقارير الإعلام، يتقرر مستقبل السودان كدولة موحدة في الاستفتاء الذي انطلق اليوم، وسوف تُعْلَن نتائجه خلال أيام، بالرغم من أن أشد الناس سذاجة يعلم علم اليقين أن سَلْخَ جنوب السودان عن بلده الأم، تقرر في اتفاق نيفاشا منذ خمس سنوات، لكن الجهر بالإعلان تأخر حتى إجراء استفتاء الجنوبيين في هذا اليوم، وذلك لأسباب بروتوكولية وضرورات إخراجية!!
فالشكل "الديموقراطي"مهم لكبراء المجرمين في الغرب، الذين توارثوا حقداً خاصاً بالسودان منذ الاحتلال الصليبي البريطاني في القرن التاسع عشر الميلادي، لأنه كان بوابة فريدة لانتشار الإسلام سلمياً وطوعياً في إفريقيا جنوبي الصحراء!! وكيف لا يُعْنَى أقطاب الشر وفراعنة العصر الحديث بالشكليات و"الطقوس"الاحتفالية، بعد أن أصبح حيوياً لدى تابعيهم ووكلائهم المتسلطين على الشعوب المسلمة؟!
وبما أن حجم الجريمة ضخم جدّاً، فإن انقضاء فترة انتقالية يدخل في باب الضروريات لا الكماليات، فهذه أول سابقة تمزيق مكتملة الأركان لبلد عربي-فالعراق مشروع أعاقته المقاومة الشريفة- ، والسابقة السودانية يفصلها قرن واحد على تفكيك آخر دولة تضم تحت رايتها أكثرية العالم الإسلامي.ولولا ذلك التمزيق الحقود لدولة الخلافة العثمانية لما تمكن سايكس وبيكو من توزيع العرب وخدهم على اثنين وعشرين دولة وجنسية!!
أما الحملة الصليبية المعاصرة اليوم، فتسعى إلى تقسيم المُقَسَّم وتجزيء المُجَزَّأ.
وهذا ليس كلاماً إيديولوجياً ولا تعبوياً، فالشاهد الدامي في بلاد الرافدين منذ الغزو قبل ثمانية أعوام يغنينا عن تقدين البراهين، ولا سيما أن أحفاد ريتشارد قلب الأسد لم يعودوا مضطرين إلى ممارسة نفاقهم الحديث، فلقد هدموا الدولة العراقية هدماً كاملاً وشاملاً، ليتبين الحمقى أن راية العداء لنظام صدام حسين لم تكن أكثر من ساتر دخاني لتمرير مؤامرتهم الشيطانية.
أجل، فقد أقاموا نظاماً طائفياً متخلفاً لم تعرفه المنطقة في عصور القوم الوسطى الحالكة في ظلمتها، وتقاسموا الأدوار مع "عدوهم"المزعوم:نظام الملالي الصفوي في طهران!!
وإذا كان المشروع المجوسي ضد العراق بخاصة وضد العرب والمسلمين بعامة، يفسر قدرة "آيات"قم على استتباع قطيع كبير سهل الانقياد، باسم الطائفية المريضة، فإن الغصة تحرق جوف المراقب الموضوعي، والحزن يُدْمي فؤاده، وهو يتابع زعامات سياسية سودانية تنتسب إلى الإسلام، وهي تلقي بكل المقدسات وراء ظهرها-بل إن بعضها داست بأقدامها على إرث مشرف لأسلافها!!-.فهذه القيادات المتلهفة على السلطة كانت بمثابة طابور خامس ضد وطنها،
وشاركت في المؤامرة القذرة، سواء أكانت تعلم أم تجهل، وهنا ستذكر المرء البيت الشعري السائر:
إن كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌ أو كنتَ تدري فالمصيبة أعظمُ
والقرائن ترجح الاحتمال الثاني بكل أسف، فالكيد الصليبي اليهودي ضد السودان قديم ومشتهر، فكيف يخفى على شخصيات ذات وزن فكري وسياسي ثقيل؟
وهؤلاء المتهالكون على كرسي الحكم يدركون أن مخطط مسخ السودان لم يولد مع نظام الرئيس الحالي عمر البشير، ولن يتوقف برحيله اليوم أو غداً!!
إنهم يكذبون على أنفسهم وعلى جمهور بات تضليله عسيراً، لأن مساعي الغرب العسكرية لفصل جنوب السودان بدأت في عام 1955-قبل عام من استقلال السودان وجلاء الإنجليز عن أراضيه!!-، واستمرت الجهود الخبيثة في ظل الحكومات المنتخبة ثم في زمن انقلاب إبراهيم عبود وكذلك في عهد جعفر النميري!!
إن اختزال القضية في نظام البشير-ولسنا هنا نزكيه أو نذمه-لن ينطلي على السودانيين، الذين لن يصفحوا عن ساسة أعماهم الطمع الذاتي التافه عن مستقبل بلادهم، بل إنه جعلهم شركاء في الجريمة مهما توهموا أنهم برآء منها!!
وإن على النظام العربي الرسمي واجباً عاجلاً لا سبيل إلى تأجيله أو مسخه وتتفيهه، ألا وهو الاستفادة الجادة من نكبتنا في السودان، لئلا ينطبق عليهم ما قالته والدة أبي عبد الله الصغير الذي بكى لما سلّم مفاتيح غرناطة إلى الغزاة الصليبيين:ابكِ كالنساء مُلْكاً لم تحافظ عليه كالرجال!
فإذا بلغ هوس السلطة بأكثر الحكام حدود ازدراء حاضر بلادهم ومستقبلها، فليستيقظوا لمصير حكمهم على الأقل، لأن تاريخ الغرب مع هذا النموذج البائس أشهر من الحاجة إلى نثر مخازيه، وما مصير شاه إيران وماركوس في الفلبين عنهم ببعيد.