غابت قيروان عقبة.. فثارت بوزيد!
29 محرم 1432
تقرير إخباري ـ إيمان الشرقاوي

فترة من التشنج والاضطرابات الاجتماعية تشهدها تونس منذ 19 ديسمبر الماضي بمدينة بوزيد على خلفية تزايد معدلات البطالة وغلاء المعيشة والشعور بالتهميش في بعض المناطق المحرومة، أرجعها البعض إلى عوامل اقتصادية وسياسية، لكن لا يمكن إغفال العوامل الدينية التي تقف حتما وراء ذلك.

 

وعند الحديث عن العوامل الدينية يجب العودة إلى تاريخ تونس القديم التي كانت في وقت من الأوقات مركزا للحضارة الإسلامية في العالم ، فتونس تلك البلد الواقعة في شمال إفريقيا كانت تعرف عند المؤرخين المسلمين باسم إفريقيا، فإذا قيل فتحت إفريقيا (مجردة هكذا) فمعناه تونس.

في سنة 50 هجريا دخل الإسلام هناك على يد عقبة بن نافع، ومع أن مصر فتحت قبلها بسنين، فإن تونس تميزت بتاريخ عريق جداً يعود لحوالي ثلاثة آلاف سنة.

 

وأصبحت تونس تحت الحكم الإسلامي منطلقاً لجيوش الإسلام ومنبعاً علمياً رئيساً بعد إنشاء مدينة القيروان التي أصبحت بدورها من أهم مدن الإسلام في تلك النواحي علماً وحضارة وتجارة، كل ذلك بعد منتصف القرن الأول الهجري.

ويعتبر إنشاء مدينة القيروان بداية تاريخ الحضارة العربية الإسلامية في المغرب العربي، وقد لعبت دورين هامين في آن واحد، هما، الجهاد والدعوة، فبينما كانت الجيوش تخرج منها للغزو والفتح، كان الفقهاء يخرجون منها لينتشروا بين البلاد يعلِّمون العربية وينشرون الإسلام.

 

وقد بقيت القيروان (كلمة فارسية دخلت إلى العربية، تعني مكان السلاح ومحط الجيش) حوالي أربعة قرون عاصمة الإسلام الأولى لإفريقيا والأندلس ومركزاً حربيّاً للجيوش الإسلامية ونقطة ارتكاز رئيسية لإشاعة اللغة العربية.

وكانت القيروان أولى المراكز العلمية في المغرب يليها قرطبة في الأندلس ثم فاس في المغرب الأقصى ولقد قصدها أبناء المغرب وغيرها من البلاد المجاورة، وكان مسجد عقبة الجامع ومعه بقية مساجد القيروان تعقد فيه حلقات للتدريس وأنشئت مدارس جامعة أطلقوا عليها "دور الحكمة"، واستقدم لها العلماء والفقهاء ورجال الدعوة من الشرق فكانت هذه المدارس وما اقترن به إنشاؤها من انصراف القائمين عليها للدرس والبحث عاملاً في رفع شأن لغة القرآن الكريم لغة العرب وثقافتهم.

 

لقد تميّز كل عصر من عصور القيروان بعدد وافر من الأسماء والأعلام في شتى ضروب العلم والمعرفة فهي عاصمة المغرب العربي وأعظم مدن القارة الإفريقية ومنارة عالية للإشعاع الفكري والديني والحضاري في العديد من العصور.

كان من أوائل من قام بالتعليم في مدينة القيروان أولئك العشرة من التابعين الذين أرسلهم عمر بن عبد العزيز ليعلموا الناس وكان من أشهر أولئك العشرة إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر الذي كان -بالإضافة إلى أنه عامل للخليفة- من أكثر أفراد تلك البعثة اندفاعا في نشر الدين.

 

وأما رواد الفقه في القيروان فهم كثير منهم الإمام سحنون بن سعيد الفقيه صاحب أبي القاسم - تلميذ الإمام مالك - ومؤلف كتاب المدونة والذي كان له دور كبير في تدوين المذهب المالكي، وقد حضر دروس هذا الفقيه العديد من طلاب الأندلس الذين قاموا بنشر مذهبه فيما بعد، وقد عرفت من رجال الفقه كذلك أسد بن الفرات قاضي إفريقية في عهد الأغالبة وقائد الحملة إلى صقلية وفاتح الجزيرة ومحمد ابن الإمام سحنون بن سعيد وابن أبي زيد القيرواني.

كما اشتهر فيها من الشعراء: أبو عبد الله القزاز القيرواني، والحسين بن رشيق القيرواني، وابن هانئ الأندلسي، وكان من بين علمائها عبد الكريم النهشلي عالم اللغة وكان من أهل الأدب أبو إسحاق (الحصري) القيرواني صاحب زهر الآداب.

أما عن مدرسة الطب فقد اشتهرت منها أسرة ابن الجزار التي توارثت الطب أبا عن جد.

 

كما عرفت تونس الجوامع العلمية مبكراً مثل جامع "الزيتونة" الشهير الذي بني في حوالي سنة ثمانين هجرية أي في القرن الأول (قيل أنه نسبة لشجر الزيتون) وأصبح أهلها من أكثر الناس نفعاً في مجال العلوم الشرعية؛ فظهر منها علماء الشريعة مثل الطاهر بن عاشور ، بل إن علم الاجتماع كان أبرز علمائه في العالم هو التونسي ابن خلدون الذي لا يخفى على باحث.

وقد سبق جامع الزيتونة الأزهر بمصر من حيث أهمية اضطلاعه بنشر العلوم الدينية والمحافظة على مكونات الهوية العربية الإسلامية لا سيما في فترات الانحطاط التي مر بها العالم العربي والإسلامي.

 

وإضافة إلى ذلك فقد أصبح الجامع منارة علم وتعليم أشعت ومازالت تشع على محيطها القريب والبعيد، وذلك من خلال جامعة الزيتونة التي نشأت بين جدران هذا المسجد العظيم وتحولت اليوم إلى مؤسسة جامعية عصرية.

فتونس إذاً إسلامية أولاً عربية ثانيا، مهد بطولات، ودوحة فاضلة من الجامعات العريقة التي نشرت النور في العالم بأسره مثل أي بقعة في العالم.

وتداول السلطة أقوام وممالك هناك فقامت حكومات ودويلات، منها دولة الأغالبة التي حكمت حوالي مئة وعشر سنوات (184- 296) ثم الدولة الفاطمية (296- 362) وهكذا تعاقبت الحكومات الصنهاجية ثم الحفصية حتى الخلافة العثمانية (981- 1298)ثم قدر الله أن تضعف الدول الإسلامية عموماً، وتدخل تونس تحت الحكم الفرنسي والاحتلال المقيت ( 1881 م) بغطاء من ملوك ضعفاء.

 

بعد أكثر من ثمانية وسبعين سنة جاء المدعو "الحبيب بورقيبة" الذي رضيت فرنسا أن يكون حاكماً بتمثيلية صدقها العرب سنة (1956 م) دخلت بعدها البلد الإسلامية في موجة عارمة من التزييف والعبث بمقدرات الأمة والاستهتار بالشريعة الإسلامية، بل ونبذها ومحاربتها بكل وسيلة.
 وبعد سنوات معدودة وتحديدا سنة 1975 قرر "بورقيبة" أن ينصب نفسه رئيساً مدى الحياة بدستور جديد خلافا للقديم الذي ينص على أن يتولى السلطة رئيس ينتخب لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد مرتين.

 

وجاء أبو رقيبة ليعلن عن سلسلة من الإجراءات البعيدة كل البعد عن الإسلام من إلغاء الصيام للعمال؛ بزعم أنه يقلل الإنتاجية، وخلع الحجاب في تونس؛ لأنه يؤخر التنمية بحسب ادعاءاته.

كما منع بورقيبة صلاة الفجر للشباب، وبدأت المخابرات تلاحق من يصلي باستمرار، واعتبار ذلك من "الإرهاب" الذي ينبغي قمعه ومحاربته. وفي عهده امتلأت السجون بالعلماء والمصلحين وغيرها من الأمثلة المفزعة لمحاربة الإسلام، إلا أن وصل الرئيس الجديد " زين العابدين بن علي" الذي عزل بورقيبة وطرده من الحكم لكبر سنه وعجزه عن إدارة شئون الدولة وذلك سنة 1987 م.

 

وسار بن علي على خطى بورقيبة وبدأ حربا عظمى على الهوية المسلمة من جديد وبأسلوب استخباراتي أكثر صرامة ؛ فكلاهما رأوا أن سبب التخلف هو التمسك بالإسلام، وعندما حاربا الإسلام لم يحدث أي تقدم أصلاً ، ولم تحرز تونس إلى اليوم أي تميز من ناحية الاختراعات والصناعات بل على العكس تزداد الحالة سوءا بسبب القهر والحصار الفكري والشرعي على الناس.

والآن وفي ظل الابتعاد عن الهوية الإسلامية وإقصاء الإسلاميين، لم يكن بالغريب أن ينفجر المجتمع التونسي في ثورة بوزيد التي يقودها اليساريون نتيجة الضغط المستمر والقهر الذي تمارسه الحكومة على شعبها والأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي قد تدفع بالمجتمع للهاوية. 

 

فهل حان الوقت أن تراجع الحكومة التونسية نفسها ومناهجها، وأن تثوب إلى رشدها، وأن تضع في اعتبارها مصلحة البلد ذي الحضارة العريقة لكي تعود هويته الإسلامية الغائبة ومن ثم تعود تونس الحضارة تونس القيروان، أم ستواصل معركتها الآثمة والتي ستخسر إن عاجلا أو آجلا؟؟