الأكراد إلى طريق جنوب السودان
17 محرم 1432
طلعت رميح

الآن لم يعد جائزا لأحد أن يرفض ما قيل ويقال حول خطة أو مخطط غربي، لتقسيم البلاد العربية والإسلامية وتفتيتها وإنهاء كياناتها القائمة،
  
 إذ الحقائق من إندونيسيا إلى السودان مرورا بالعراق باتت تفرض التصديق الكامل على مثل تلك الأقوال. من قبل انتهت إندونيسيا إلى الانقسام إلى دولتين هما، إندونيسيا وتيمور الشرقية، إذ الأخيرة أصبحت عضوا في الأمم المتحدة من جهة وتحت السطوة والسيطرة الأسترالية الأمريكية المشتركة، ولأن الوضع الراهن يعلن أننا قاب قوسين أو أدنى من تقسيم دولة السودان بفصل جنوب السودان عن جسد المجتمع والجغرافيا وإعلان دولة منفصلة، كمقدمة أساسية وخطوة كبرى في الطريق لاندلاع حروب أوسع وأشد خطرا لتفكيك شامل لهذا البلد. ولأن الكلام صار صريحا حول ولوج القيادة الكردية المتعصبة إلى مرحلة إنفاذ مخطط تقسيم العراق، بما أعلنه رئيس إقليم كردستان عن بدء إنفاذ حق تقرير مصير أكراد العراق، وهو ما يشير إلى سلوك نفس طريق جنوب السودان. وكل ذلك وغيره هو ما يؤكد أن قطار مخطط التقسيم قد انطلق بالفعل ليمر بكل الدول والكيانات العربية والإسلامية، إذ تتناثر حالات الصراع العرقي والطائفي في كل الأرجاء، في حالة وظاهرة لم تعرفها المنطقة على هذا النحو في العصر الحديث.

 

والملاحظة البارزة هنا، هي أن حق تقرير المصير هو الشعار الذي صار معتمدا في كل أعمال التفكيك، وأنه الشعار الذي صار يتحول الآن في العالم العربي والإسلامي من قيمة إيجابية حققت الاستقلال سابقا، إلى قيمة مضادة وسلبية لكل ما أنجزته بلدان تلك الأمة، بما يمثل حالة تدير الرأس وتحرك كل علامات التعجب والاستفهام.

 

لقد كان شعار حق تقرير المصير قيمة إيجابية كبرى في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذ تحت ظلاله جرت أعمال استقلال الدول العربية واحدة تلو الأخرى، لتسقط الظاهرة الاستعمارية وتنتهي وتحصل الشعوب على حق تقرير مصيرها في بناء دولها المستقلة عن المستعمر.

والآن يتحول هذا الشعار إلى قيمة بالغة السلبية، إذ يجري استخدام هذا الشعار لتفكيك الدول التي سبق أن توحدت واستقلت على أساسه، ويتحول إلى أداة هدم لمنجزات الشعوب وأساسا لتهيئة الظروف لإعادة احتلالها مجددا، إذ كل الدول التي تتشكل الآن وفق هذا الشعار، يجري تشكيلها على أنقاض الدول التي تشكلت ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية على أساس نفس، كما هي دول تتشكل الآن لتحقيق هدف أساسي هو العمل كنقاط ارتكاز للاستعمار، إذ كلها دول لا تستطيع الاعتماد على نفسها، بل هي دول تتشكل من خلال فعل المستعمر ولتحقيق أهدافه، حتى يكاد المرء يقول إنها دول لا وظيفة لها إلا العمل كمناطق لإقامة قواعد عسكرية أجنبية، وأنها دول تجرى صناعتها أو هندستها كنقاط انطلاق إستراتيجية للمستعمر في المنطقة أو الإقليم الذي تولد به، فضلا عن أنها أداة للسيطرة الدائمة على الدولة التي يجري تقسيمها. في اللحظة الراهنة يبدو حق تقرير مصير الأكراد هو شعار المرحلة، والتوجه البديل لشعارات الحكم الذاتي ولأعمال المطالبة التي جرت من قبل حين كان التوجه الأساس هو توجه الانفصال الصريح والمباشر عن الجسد والكيان العراقي.

 

رئيس إقليم كردستان العراق، أعلن أن حق تقرير المصير هو شعار المرحلة الراهنة، بما يعني دخول مخطط تشكيل الدولة الكردية الانفصالية مرحلة جديدة، لاشك أنها ستمثل تغييرا في خارطة معظم دول الإقليم المحيط بالعراق.

كانت الحالة الكردية قد رفعت في البداية شعارات الحكم الذاتي وحصلت عليه من قبل نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين بعد صراعات عسكرية معقدة، صار معلوما للقاصي والداني أن إسرائيل وإيران كان لها دور أساسي فيها. ومع ضعف هذا النظام بفعل تلقيه ضربات عسكرية وسياسية واقتصادية أمريكية وصلت حد منع وصول السيطرة المركزية إلى شمال العراق، تحولت الحالة الكردية إلى نمط من التخارج أو الانفصال العملي لكن غير الرسمي، عن الدولة المركزية العراقية، وكان قرار الحظر الجوي هو ما هيا حدوث تلك الحالة. وبعد الإطاحة بالنظام والدولة المركزية العراقية وأجهزتها إثر غزو واحتلال العراق، تحولت الحالة الكردية إلى نمط معقد من الانفصال، إذ صارت عمليا في وضع الدولة المستقلة، لكنها في الواقع النظري بقيت داخل حدود العراق. وهو ما يظهر الآن كمرحلة انتقالية ليس إلا، إذ إعلان مسعود البرزاني عن سعي لإنفاذ حق تقرير المصير للأكراد، يعني أننا دخلنا -تحت ظلال تلك المقولة– إنفاذ مخطط الانفصال عن العراق، على ذات الطريقة التي جرى اعتمادها بشان السودان وجنوبه، ومن قبل بشأن إقليم تيمور الشرقية عن إندونيسيا.

 

الآن، يمكن القول، إننا أمام تغيير إستراتيجي في اتجاه الحركة الكردية، ويجب على كل دول الإقليم التعامل مع تصريحات البرزاني على هذا النحو. كانت الحركة الكردية الانفصالية تتحدث خلال مرحلة النظام العراقي السابق، عن تعرضها للظلم والاضطهاد، وطرحت ضرورة الحكم الذاتي ولم تعلن عن عزمها الانفصال عن العراق بل كانت تنفي وجود ميول انفصالية لديها، لكنها الآن تعلن عن حق تقرير المصير عن دولة رئيسها هو رئيس كردي ووزير خارجيتها هو وزير كردي –وكلاهما من مناصب التمثيل السياسي والدبلوماسي للعراق تجاه الخارج –والمفارقة الأشد هو أن رئيس إقليمها –المطلوب انفصاله -هو من جمع القيادات السياسية العراقية على طاولة حل مشاكل العراق كله، بما يثير إرباكا في عقول الناس، إذ كيف لمن أصبحوا في وضع المهيمن والمتنفذ في دولة العراق ما بعد الاحتلال، أن يطلبوا حق تقرير المصير؟ التساؤل مشروع ومهم وأساسي، إذ الكل في العراق بات يشكو من تحول الحالة الكردية من النقيض إلى النقيض في النفوذ والسيطرة في العراق الراهن.

 

البعض قال، إنها محاولة للضغط على الفرقاء الآخرين، على اعتبار أننا ما زلنا نعيش أجواء تقاسم السلطة وتوزيع المناصب وعلى اعتبار أن المطالب الكردية التي جرى رفعها في مذكرات قد وصلت آفاقا لا يستطيع الكثيرون قبولها، بما دفع البرزاني للتلويح بتلك الورقة رغم مخاطر التلويح على استقرار الإقليم وعلى علاقاته بدول الجوار. لكن الحقيقة هي أننا أمام خطوة انفصالية بالفعل وإن مخطط تقسيم العراق يدخل مرحلة التنفيذ، وإن طرح حق تقرير المصير لا معنى له سوى إنفاذ خطوة كبرى في الاتجاه نحو انفصال الكيان الكردي، خاصة أن استفتاء جرى بالفعل في مرحلة ما بعد الاحتلال حول الانفصال. نحن في مواجهة خطة واضحة لتفكيك العراق كله، وما يجري الآن هو أن قادة الأحزاب الكردية المتعصبين، ولجوا المرحلة الثالثة من مخطط التفكيك، إذ تولت القوة العسكرية الأمريكية إنهاء قوة الدولة المركزية العراقية كخطوة أولى تسمح بالانطلاق للمرحلة الثانية التي جرى خلالها إشاعة مناخ التفتيت الذي ارتبط بفكرة الانقسام والمحاصصة الداخلية في تشكيل كل مؤسسات الحكم -بل وكل نمط الحياة في العراق– فيما سمى بالفيدرالية. إن الإعلان الآن عن حق تقرير المصير هو إعلان بانطلاق المرحلة الثالثة في مخطط تفكيك العراق.

 

وفي ذلك يمكن القول بثقة، إن سيناريو تفكيك العراق لا يعود إلى حالة الحرب والاحتلال الأمريكي للعراق، بل يعود إلى ما قبل ذلك بكثير، إذ كانت الحركة الكردية الانفصالية من بدايتها، مخلب قط للغرب والحركة الصهيونية في إنفاذ مخططاتها، ولذا يبدو ضروريا أن نتعلم ولو لمرة واحدة، كيف نثق فيما يقال حول المخطط الغربي لتقسيم كل بلدان المنطقة.

يعود الحديث عن حق تقرير مصير الشعوب إلى مرحلة الحرب العالمية الأولى، إذ كانت الظاهرة الاستعمارية البريطانية والفرنسية قد بدأت مرحلة انحدارها، ولم تعد تتوافر لها القوة والقدرة على استمرار قهر الشعوب المحتلة. كما يعود طرح حق تقرير المصير إلى بدء ظهور قوة غربية جديدة هي الولايات المتحدة على صعيد السيطرة والسطوة على الدول، كان من مصلحتها إنهاء الظاهرة الاستعمارية القديمة أو إقصاء الدول القديمة للحلول محلها في استعمار الدول.

 

في الحالة السودانية يجري تفتيت هذا البلد من خلال أحاديث عن حق الجنوبيين في تقرير مصيرهم، وكانت الحكومة السودانية بمثابة قوة احتلال في جنوب السودان، إذ كان شعار حق تقرير المصير هو ذاته الذي على أساسه استقل السودان. وإذ يجري الآن للاستعداد لإجراء استفتاء في جنوب السودان حول حق تقرير المصير، فكل المتابعين يرون أن السودان لن يشهد فقط استفتاء أو انفصالا للجنوب، بل هو أصبح على أبواب دخول لبوابة من الانقسامات والحرب الأهلية والتفتت لكل أقاليمه، وأن هذا البلد يدخل إلى مرحلة تعادي بين أقاليمه انطلاقا من جنوب السودان في حال انفصاله سلما أو في حالة اندلاع حرب بينه والدولة السودانية.. إلخ. والآن يحدث ذات الأمر في الحالة العراقية وبكل التفاصيل، لكن هذه المرة بيد الدولة المستعمرة مباشرة وتحت إشرافها وتوجيهها. لا يمكن عدم الربط بين المقترح الكردي الراهن وتفكيك الولايات المتحدة لجهاز الدولة المركزي في العراق بل لكل المؤسسات التي شكلت الضمانة لبقاء العراق موحدا. ولا يمكن فصل كلام البرزاني حول حق تقرير المصير ونمط المحاصصة الطائفية والعرقية التي وضعها المحتل الأمريكي أساسا لبناء الدولة العراقية ما بعد الاحتلال. ولا يمكن فصل كلام البرزاني عن مشروع القرار الذي سبق أن تقدم به جوزيف بايدن نائب الرئيس الأمريكي الحالي للكونجرس الأمريكي –وجرى إقراره- بتفكيك العراق إلى ثلاث دول إحداها كردية والثانية شيعية والثالثة كردية، ولا عن مخطط الشرق الأوسط الجديد الذي اعتمدته الولايات المتحدة في المنطقة والمعلوم أنه يقوم تحديدا على فكرة جوهرية هي تفكيك الدول وإنهاء الوجود المستقل وصناعة كيانات قزمية لا حول لها ولا قوة تتلهف في صراعها مع بعضها البعض إلى طلب النجدة والسعي نحو مصالح نخبها من خلال الارتباط بالمصالح والوجود الغربي، ولا عن المخطط الأمريكي لإثارة الاضطرابات الطائفية والعرقية والطائفية في كل الدول، ولا عن الفهم المغلوط والمقلوب للولايات المتحدة بشأن حق تقرير المصير، الذي تحول الآن إلى أداة لتحقيق المصالح والخطط الاستعمارية بدلا من حالته السابقة كأداة لتحقيق استقلال الشعوب وتحقيق الحرية والسيادة والاستقلال.

والمعنى أن ما طرحه مسعود البرزاني مؤخرا ليس إلا خطوة جارية ضمن المخطط الأمريكي، وتطوير له وضمن إطار المفهوم المغلوط الذي تعتمده الولايات المتحدة لحق تقرير المصير، والذي يمثل انقلابا على معناه وأهدافه القديمة.
 

المصدر/ يقين