انفصال جنوب السودان .. نظرة مقاصدية
15 محرم 1432
أ.د. علاء الدين الزاكي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

فإن السياسة كممارسة يسقط فيها كثيرٌ من الناس خاصة إذا قصدنا بها السياسة الشرعية أي المضبوطة بضابط الشرع فيقع فيها الإفراط والتفريط والغلو والتساهل.
وذلك لندرة النصوص في هذا الباب أو لأن النصوص سواء أكانت قواعد عامة  فإنها تحتاج إلى من يحسن إنزالها وتطبيقها على الفروع، أو كانت هذه النصوص عللاً ربط الشارع بها الأحكام تحتاج إلى من يملك القدرة على تحقيق المناط وتخريجه وإلحاق الأشباه بالنظائر.

 

أو أن بعض الوقائع السياسية مرتبطة بالمصلحة التي تحتاج إلى من له قدرة على تقدير المصالح وترجيح بعضها على بعض أو ترجيحها على المفاسد أو تقدير المفاسد أو وترجيح بعضها على بعض أو ترجيحها على المصالح، وكل هذا ليس بالأمر السهل حتى قال فيه ابن القيم:( هذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك في معترك صعب، فرط فيه طائفة، فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، وسدوا على أنفسهم طرقاً صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحق من المبطل، وعطلوا مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق، ظناً منهم منافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها، فلما رأى ولاة الأمر ذلك، وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم، فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوا من أوضاع سياستهم شر طويل، وفساد عريض، وتفاقم الأمر، وتعذر استدراكه. وأفرط فيه طائفة أخرى فسوغت منه ما يناقض حكم الله ورسوله، وكلا الطائفتين أتيت من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.)(1) .

 

وبين أيدينا في السودان نازلة عظيمة تمثلت في إعطاء حق تقرير المصير لشعب جنوب السوان الأمر الذي يمهد الطريق لفصله عن شماله ولا شك أنها من أعظم النوازل التي تمر بالسودان منذ استقلاله لخطورة عواقبها، خاصة وأنها تعتبر سابقة لها ما بعدها؛لذلك تحتاج في بيانها إلى من يحسن وضع الميزان الشرعي بكفتيه دون وكس ولا شطط لينظر فيها نظراً متزناً لا يتعارض مع مصالح الناس وضوابط الشرع ونحن في هذه الدراسة نسلك مسلكا مقاصدياً لدراسة هذه النازلة ؛ لبيان حكمها وما الذي ينبغي فيها.والله الموفق والهادي لسواء السبيل.

 

المبحث الأول:تعريف المقاصد:

 بما أننا نريد نظرا مقاصدياً فانه من الضروري أن نعطي فكرة موجزة عن علم المقاصد حتى يتمكن القارئ غير المتخصص من معرفة مسلك الدراسة ويتصور الطريق الذي به نتوصل إلى المراد ونبدأ بتعريف المقاصد فنقول:

  المقاصد:لغة: تعود كلمة «مقصد» إلى أصل (ق ص د)، ومواقعها في كلام العرب الاعتزام والتوجه والنهوض نحو الشيء، على اعتدال كان أو جور. هذا أصله في الحقيقة وإن كان يُخص في بعض المواضع بقصد الاستقامة دون الميل.
     فقَصَدْت الشيء له وإليه قَصْدًا من باب (ضرب) طلبته بعينه وإليه قَصْدي ومَقْصِدي بفتح الصاد، واسم المكان بكسرها نحو مقصد معين (2) .

 


وأما في الاصطلاح:

    فقد عرفها ابن عاشور بقوله: ( مقاصد التشريع العامة: هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها)(3) .

فعلم المقاصد يبحث في الحكم والعلل التي راعتها الشريعة عند تشريعها للأحكام فمراعاة هذه الأمور من الشارع الحكيم يدل على أن لها اعتباراً وتأثيراً فصارت قاعدة يندرج تحتها كل فرع من أشباهها ونظائرها.فمثلاً تحريم ومَنْع كل مُتْلِفٍ للعقل أو مُفْسِدِه، كتحريم كل مسكر من الخمر وغيره.

 فغاية المنع في هذا المثال : حفظ العقل، وهو من مقاصد الشريعة. وكتشريع القصاص وهو ظاهر في أن الشريعة جعلت الحفاظ على النفس من مقاصدها.وكتشريع الجهاد مع ذهاب النفوس فيه، ظاهر في أن الشريعة جعلت الحفاظ على الدين من مقاصدها المقدمة على الحفاظ على النفس.فالنظر المقاصدي يدل دلالة واضحة على قدرة الشريعة على المواكبة ومقابلة المستجدات.

 


المبحث الثاني: النظر المقاصدي في فصل الجنوب:

  إذا أردنا أن نتناول قضية فصل الجنوب من الناحية المقاصدية فإننا نركز على أظهر المقاصد فيها ليتبين المراد ويمكن القول بأن النظر يكون كالأتي:-

 

النظرالأول: من حيث المصلحة:

  فالمعروف الذي لا يُشك فيه أن المصلحة من أظهر مقاصد الشرع وهي الثمرة المترتبة على الأحكام التي شرعها الله لعباده، وهي مقصد الشارع من التشريع ابتداءً(4) ،فالاستقراء المفيد للقطع يثبت أن أحكام الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد في الدارين. يقول السلمي: إن الشرائع كلها -ومنها شريعة الإسلام- لها مقصد عام رئيس ينتظم بقية المقاصد الأخرى، وهو حفظ مصالح العباد في الدنيا والآخرة، وقد يعبر عنه بجلب المصالح وتكميلها، ودفع المفاسد وتقليلها؛ أي إذا لم نستطع دفعها بالكلية؛ فعلى الأقل نقللها. فهذا هو المقصد الأعظم من وضع الشريعة ابتداء(5) .

 فلذلك يجب مراعاتها واعتبارها وعدم أهمالها في أي نظر مقاصدي.
 والمصلحة المقصودة كماقال ابن قدامة:هي جلب المنفعة ودفع المضرة(6) .ويشمل ذلك المصالح المعتبرة والملغاة والمرسلة، ونعني بمعتبرة أي اعتبرها الشارع ونص عليها، وملغية أي شهد لها الشارع بالإلغاء كمصلحة الانتشاء في شرب الخمر وأما المرسلة فهي كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هي أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة وليس في الشرع ما ينفيه(7) .

 

 

وهذا يظهر جلياً في مالم يرد فيه نص شرعية وهو يحتاج إلى حكم شرعي بسلوك النظر المقاصدي.

   يقول ابن عبد السلام: ( ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع ولا نص ولا قياس خاص، فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك)(8)
  
 ومقصود ذلك أن الشريعة المباركة نظرت عند تشريعها للاحكام إلى مصلحة العباد فكل أمر يتعارض مع مصالحهم إما بجلب الضرر أو تفويت الخير عنهم نعلم يقيناً أنه ليس من الدين في شيء.

 

 

وعليه فإذا أردنا أن ننظر إلى المصلحة في فصل الجنوب فلابد الاشارة إلى عدة أمور:

أولاً:تناول مجمل المصالح سواء كانت معتبرة شرعاً، أو كانت ملغاة شرعاً. أوكانت من المصالح المرسلة.

ثانيا: نقصد بالمصلحة الحقيقية ليست المتوهمة ومن المعلوم الذي سار عليه  العلماء من منهج سوي في باب المصالح، ترك المصالح المتوهمة، والمنافع المظنونة. ففي الغالب أن المصالح المتوهمة تكون مرجوحة في مقابلة المصالح الحقيقية.كالذي يطالب بإلغاء حد الردة من أجل مصلحة دخول الناس في الاسلام.

  والميزان في هذه ترجيح المصلحة الحقيقية على المتوهمة بدون خلاف، فترك المصلحة المتحققة ولو كانت يسيرة أفضل من المصالحه المتوهمة.

 ثالثا:اختلاط المصالح والمفاسد في كل أمر دنيوي بمعني أنه ليس في الدنيا مصلحة محضة وليس في الدنيا مفسدة محضة فكل أمر تتنازعه المصالح والمفاسد.

   قال العز: واعلم أن المصالح الخالصة عزيزة الوجود، فإن المآكل والمشارب والملابس والمناكح والمراكب والمساكن لا تحصل إلا بِنَصَبٍ مقترن بها، أو سابق، أو لاحق، وأن السعي في تحصيل هذه الأشياء كلها شاق على معظم الخلق لا ينال إلا بكد وتعب، فإذا حصلت اقترن بها من الآفات ما ينكدها وينغصها، فتحصيل هذه الأشياء شاق. أما المآكل والمشارب فيتألم الإنسان بشهوتها.

 

وقال:(المصالح المحضة قليلة وكذلك المفاسد المحضة والأكثر منها اشتمل على المصالح والمفاسد)(9) .

  وقال ابن تيمية: (إن المصلحة المحضة نادرة، فأكثر الحوادث فيها ما يسوء ويسر، فيشتمل الفعل على ما ينفع ويحب ويراد ويطلب، وعلى ما يضر ويبغض ويكره ويدفع. وكذلك الآمر يأمر بتحصيل النافع، وينهى عن تحصيل الضار)(10) .

 ومعلوم أن هذه المصالح يحصل بينها التعارض الذي يحتاج إلى ترجيح وليس كل إنسان يصلح لذلك يقول ابن تيمية: (و باب التعارض _ أي بين المصالح والمفاسد أو بين المصالح نفسها أو المفاسد نفسها _ باب واسع جداً، لاسيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلط الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر، وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة و المضرة، أو يتبيّن لهم فلا يجدون من يعينهم العمل بالحسنات، وترك السيئات لكون الأهواء قارنت الآراء، ولهذا جاء في الحديث "إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات)(11) .

 

 

    وفي هذه الحال يكون الميزان كالأتي:

1/إذا كانت المصلحة راجحة قدمت وإذا كانت المفسدة راجحة قدمت وهذا يعني أن المصلحة إذا اختلطت بمفسدة وكانت المصلحة راجحة قدمت وإذا كانت المفسدة راجحة تم درؤها أي قدمت ولا نبالى بفوات المصلحة المرجوحة:

  قال الرازي: أن يكون ما فيه من المفسدة راجحاً على ما فيه من المصلحة وهو أيضا غير مشروع لأن المفسدة الراجحة واجبة الدفع بالضرورة.

  وقال: أن يستلزم مصلحة راجحة وهذا أيضا لابد وأن يكون مشروعا لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير.(12)

    يقول العز بن عبد السلام: (إن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وإن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وإن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وإن تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمود حسن، وإن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن، واتفق الحكماء على ذلك، وكذلك الشرائع: على تحريم الدماء ـ القتل ـ، والأبضاع ـ الزنى ـ والأموال ـ السرقة والغصب ـ والأعراض ـ القذف والإيذاء ـ، وعلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال،... وكذلك الأطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما، ويجلبون أعلى ولا يبالون بفوات أدناهما،... فإن تعذر درء الجميع ـ المفاسد ـ أو جلب الجميع أ لمصالح ـ فإن تساوت الرتب تخير، وان تفاوت استعمل الترجيح عند عرفانه، والتوقف عند الجهل به)(13)

 

    ويقول ابن تيمة:(وتمام الورع أن يتعلم الإنسان خير الخيرين، وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية، والمفسدة الشرعية؛ فقد يدع واجبات، ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجمعة والجماعات خلف الأئمة الذين فيهم بدعة، أو فجور، ويرى ذلك من الورع، ويمتنع من قبول شهادة الصادق، وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفيفة، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع )(14)

 

وقال:( استقرت الشريعة بترجيح خير الخيرين ودفع شر الشرين وترجيح الراجح من الخير والشر المجتمعين )(15) 

ومن الأدلة على اعتبار المصلحة الراجحة، أو المفسدة الراجحة دون عكسها، قول الله سبحانه: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا...} 2الآية. ثم قد نزل القرآن الكريم بتحريمها.

وهذه الآية كالنص في القاعدة حيث ألغى الشارع المنافع التي في الخمر والميسر ولم يعتبرها، لرجحان الإثم فيهما، فكانت المصلحة في تحريمهما أولى من المصلحة في حلّهما.

   وعلى هذا يكون الميزان عندما تتعارض المصلحة والمفسدة كالأتي:-
1/فإن كانت المصلحة هي الراجحه فالمفسدة بمنزلة المعدومه.
2/ وإن كانت المفسدة هي الراجحه فالمصلحة بمنزلة المعدومه
3/وعند التساوي يقال دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح 
4/وعند تعارض المصلحتين يقدم الأرجح
5/وعند تعارض المفسدتين تقدم الأقل مفسدة إذا لم يمكن تجنبهما.
6/ وعند تساوي المفسدتين ولا يمكن اجتنابهما فهو بالخيار
7/(وعند تساوي المصلحتين ولا يمكن فعلهما جميعا فهو بالخيار).

 

 

فلو نظرنا إلى نازلة الجنوب من جانب المصلحة الشرعية وفق الميزان السابق فبدون شك أن الانفصال فيه مصالح ومفاسد كما قررنا سابقاً وهذا لايخفي على صاحب أدنى بصيرة فعليه لا بد من عرض المصالح والمفاسد أولاً ثم ننظر في تطبيق الميزان آنف الذكر فأقول مستعينا بالله:

 

أولاً:مفاسد فصل الجنوب كما يراها أهل الوحدة.

 أولاً:تمكن النصارى من الأرض التي كانت للمسلمين ترتفع فيها المآذن ويعلو فيها صوت المؤذن وتقام فيها شعائر الإسلام فتتحول بلاد المسلمين من أيديهم إلى أيدي أولئك النصارى.

 وخير دليل على ذلك في الماضي البعيد بلاد الأندلس "إسبانيا" الآن، وفي السنوات الأخيرة انفصال سنغافورة عن ماليزيا عندما تحكم الصينيون الكفار في مفاصل الدولة الاقتصادية، وأصبحت لهم الشوكة وقوة فانقلبوا على ماليزيا وطالبوا بالاستقلال ونُفذ لهم تحت مسمى "حق تقرير المصير"، وجزر الملوك في اندونيسا عندما عمل النصارى فيها عملهم أيضا تحت مسمى " تقرير المصير.

 مع أن الدول الغربية لم تعطِ هذا الحق للشيشان أو فطاني في تايلاند أو كشمير في الهند أو جنوب الفلبين لأنها تعلم يقينا خطر ذلك من الناحية الدينة باعتبار أن الفئة الغالبة هي المسلمة وأن انفصالها يعني إقامة دولة مسلمة.

 علما بأن حق تقرير المصير كما تعرفه المادة الأولى الموحدة من عهدي حقوق الإنسان لعام 1966 بأنه (حرية الشعوب في تقرير مركزها السياسي وحرية تأمين نمائها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي).دون تفريق بين مسلم وغيره.

      فالحق لكل الشعوب دون تمييز،ومع ذلك تمُنع الدول الإسلامية من هذا الحق وتعان  أقليات كنسية لنيل هذا الحق كما هو واضح الآن من هرولة الدول الغربية في السودان لتنال الحركة الشعبية هذا الحق وتقدم الحوافز للحكومة السودانية الضخمة والمكتوبة، تُرى لم هذا كله مع حرمان أمريكا للمذكورين من المسلمين آنفاً  فلا يبدو للناظر سوى تفسير واحد هو الدين.

وقد كان التمهيد الأكبر قبل ذلك من الاحتلال الإنجليزي لفصل الجنوب وتسليمه لدولة نصرانية يقول د.إبراهيم محمد حاج موسى: (إذا كان الاستعمار الإنجليزي قد عرف باللين على خلاف الفرنسي،إلا أن اللين كان يخفي وراءه سياسة خبيثة وهي سياسة تمزيق الشعوب وبذر العداوة والبغضاء وسار على ذلك في كثير من مستعمراتها السابقة كالهند والشام وغيرها فكانت خططهم لعزل جنوب السودان عن شماله)(16)

 

 


وقام الاحتلال بإصدار جملة من  القرارات منها:

1/قانون المناطق المقفولة في العام 1921م وقد كان جداراً عازلاً سياسياً وإقتصادياً واجتماعياً بين شمال السودان وجنوبه فمُنع بموجبه الدعاة المسلمين من دخول جنوب السودان.

2/نشر اللغة الإنجليزية فيه بدلاً عن العربية وجعلها لغة التدريس والمخاطبة مع أن لغة السودان الأساسية هي العربية.وقد صرح السكرتير الاداري في العام 1921م وقال: ليس هناك مبرر في أن يحكم العرب الشماليون الجنوبين الزنوج(17).وهذا يؤكد سياسة الاحتلال الرامية لفصل الجنوب.

3/في العام 1917م قرر السكرتير الاداري أن العطلة الأسبوعية هي الأحد بدلاً من الجمعة.
     وقد فوجئ السير جيمس روبرسون السكرتير الإداري للسودان في العام 1947م  بقرار مؤتمر جوبا الذي اتفق فيه القادة الجنوبيون مع القادة الشمالين على تكوين جمعية تشريعية تضم أبناء الجنوب والشمال معاً وانتفى حلم الانفصال عن الشمال المسلم.

 

 

 ولكن بالجملة جهود الاحتلال الانجليزي لم تذهب سودى بل أثرت تأثيرا مباشرا في عقول الجنوبين مستقبلا فما من مؤتمر يعقد لحل مشكلة جنوب السودان لايجاد صيغة مرضية للشمال والجنوب منذ مؤتمر المائدة المستديرة في العام 1965م بأديس أبابا،إلا وطرح الجنوبيون موضوع تقرير المصير للحصول على الانفصال حتى أصبح واقعاً في اتفاق السلام الأخير المسمى (نيفاشا).

وقد أحكمت الحركة الشعبية هذه المرة قبضتها على هذا الحق بقوة ودون مجاملة بتضمينه في بنود إتفاقية السلام الشامل ودستور السودان الدائم والمؤسسة التشريعية بالبلاد،واتخذت من المنظمات والمؤسسات الكنسية سندا ومعيناً ومن الدول الكنسية وحلفائها ظهرا لتحقيق حلم الانفصال.

ثانياً: من مفاسد فصل الجنوب، تهديد أمن البلاد وبداية حرب فعلية من جديد بدخول لاعب أكبر وخطر أعظم يتمثل في الأمريكان من جهة واسرائيل من جهة أخري وقد ظهر ذلك جليا في وجود الخبراء الاسرائليين في الجنوب وتصريحات رئيس الجنوب التي قال فيها ان عداوة اسرائيل مع العرب فقط والتنسيق المباشر والمعلن مع الإدارة الأمريكية. ولربما نقلت المعركة إلى داخل العاصمة بعد تزود الجيش الشعبي بالطائرات والصواريخ بعيدة المدى في ظل الدعم  الأمريكي والإسرائيلي. وانتقال المعركة من معركة بين جيش وعصابات إلى معركة بين جيشين نظاميين وقد تتدخل أطراف أخرى معادية للسودان من دول الجوار.

3/ الآثار الاقتصادية الخطيرة التي تتمثل في الأتي:

  أ/تفريط الدولة في مياه النيل خاصة في ظل حرب المياه المتوقعة وفي ظل إهمال اتفاقية السلام (الشامل) لموضوع المياه وعدم التنصيص على شيئ واضح فيها في حالة الانفصال أو الوحدة إلا باللجوء إلى التحكيم الدولى على قانون (خلافة الدولة).

 

 

    وقدكانت مياه النيل مصدرا للخلاف قبل استقلال السودان حتى الآن. وظهرت بوادر الخلاف بين دول حوض النيل في الإجتماعات الأخيرة ولم يتفق حتى لحظة كتابة هذا البحث على حصة كل دولة وتصاعدت الحرب الكلامية بين دول حوض النيل خاصة مصر وإثيوبيا، أما السودان فسيكون بين مطرقة أثيوبيا وسندان دولة الجنوب الوليدة فالنيل الرئيس له رافدان أساسيان الأزرق الذي ينبع من الهضبة الأثيوبية والأبيض الذي ينبع من يوغندا ويعبر الجنوب إلى الشمال،فأي اتفاق بين أثيوبيا صديقة الحركة الشعبية مع دولة الجنوب الوليدة سيشكل خطراً حقيقياً على مياه النيل  سيكون له أثره على السودان ومصر التي عاشت على أحلام وعود الأمريكان ونسيت شريان أرضها الأساسي. 

ب/البترول الذي كان أغلب ما اكتشف منه في الجنوب مع العلم أن الميزانية الحالية تعتمد على البترول بنسبة 70%.وهذا يعني أيلولة البترول لدولة الجنوب بنسبة كبيرة بدون تكلفة،ودخول الشمال في التنقيب من جديد بتكلفة جديدة وعقود جديدة.

ج/الانفاق على الحرب القادمة المتوقعة بسبب القنابل الموقوتة التي لم تحسم قبل الإنفصال وأخطرها مايلي:_

1/الحدود التي لم ترسم حيث توجد حوالى 12 منطقة لم ترسم كأبيي وهجليج والجبلين وبحر العرب وحفرة النحاس وكاكا التجارية وجبل المقينص وغيرها.

2/ المسائل العشر التي نص عليها قانون الاستفتاء المجاز في عام 2009م كمسألة الجنسية والعملة والخدمة العامة والوحدات العسكرية والأمنية والديون...وغيرها والتي من المتوقع أن تناقش بعد الإستفتاء.
 
3/ اتهامات الطرفين بإيواء معارضة الآخر.

 فهذه كلها وغيرها قنابل موقوتة ستكون سببا لحرب أكبر يكون الانفاق عليها أكثر من الحرب الماضية كما كان السلام أكثر إنفاقاً من الحرب مع وعود الحكومة قبل توقيع اتفاقية السلام بالرخاء الذي ما رأه الشعب السوداني يوما بل ازداد الوضع سوءً وازدادت الأسعار غلاءً.

 

 


ثانيا:مصالح فصل الجنوب عند الانفصالين:

 1/تطبيق الشريعة الاسلامية في الشمال بمعني أن الجنوب هو السبب في تعطيل الشرع في الشمال فيمكن أن يكون الانفصال في مقابل الشريعة في الشمال. باعتبار أن غير المسلمين من النصارى والوثنيين أغلبهم من الجنوب فليس لأحد حجة بعد ذهابهم.

2/ كان الجنوب – ولا يزال - عبئا ثقيلاً على الشمال طيلة الفترة الماضية لذلك آن الآوان للتحلل من هذا العبء الثقيل، والتخفيف على الشمال الذي عاني من الإنفاق على الحرب في الجنوب طيلة السنوات الماضية.

3/الجيش السوداني أرهقته الحرب الطويلة المكلفة فلابد له من استراحة تمكنه من اعداد نفسه من جديد والتفرغ لمهام أخرى أكبر وأعظم.

4/التعويل على حدوث القتال بين الجنوبيين الأمر الذي يدفعهم إلى الشمال مرة أخرى وهم ضعفاء أرهقتهم النزاعات. خاصة في ظل التقارير التي تحدثت عن النزاعات القبلية في الجنوب وحذرت من خطورة تناميها كما في التقرير الذي رفع للجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأمريكي في العام 2010م.

5/الأضرار الناجمة عن الحرب في الجنوب تمثلت في سقوط الآلآف من الضحايا من العسكرين والمدنيين ومئات المعاقين وتشريد آلاف الأسر من قراهم،وترملت النساء وكثر الأيتام وفقد اساتذة الجامعات والطلاب. فإيقاف هذه الحرب وحماية الناس أفضل وأحسن من الحفاظ على الجنوب.

4/(الضرورات تبيح المحظورات) بمعنى أن الحكومة المركزية عليها ضغوط كبيرة ألجأتها للموافقة على حق تقرير المصير. 

 

 

 


ثالثا:تطبيق الميزان:

 بعد ذكر مصالح الانفصال ومفاسده يتبين بوضوح مايلى:-

1/هناك مصالح لفصل الجنوب،وهناك مفاسد كذلك لفصله. وهذا طبيعي في كل أمر دنيوي أن تختلط فيه المصالح بالمفاسد وهذه لا ينازع فيها أحد.

2/ في كل من الانفصال والوحدة مصلحة دينية  تمثلت في الحفاظ على عقائد المسلمين في الجنوب وتمكين الدين والدعوة إليه في حالة الوحدة، وتمكين الدين في الشمال في حالة الانفصال باعتبار أن الجنوب هو العقبة في ذلك وكما هو معلوم أن مصلحة الدين أعلى المصالح لا تقدم عليها مصلحة.

3/في كل من الانفصال أو الوحدة مصلحة الحفاظ على النفس بحقن الدماء وإيقاف الحرب بالموافقة على الانفصال، أو أن الانفصال يفتح باب الحرب من جديد بصورة أكبر ظهرت علاماتها وأماراتها الآن.

4/في كل من الانفصال والوحدة مصلحة مالية والحفاظ على مصلحة المال من المصالح الضروية التي حافظ عليها الاسلام.تمثلت في التحلل من عبئ الجنوب الذي أرهق الدولة ردحاً من الزمن دفع المواطن ثمنه.وبين فقدان الدولة لموارد عظيمة وتهديد موارد أساسية كالمياه وغيرها.

 

 


 بعد هذا العرض فإن ميزان المصالح في فصل الجنوب يكون كالأتي:-

أولاً:إن مصلحة الدين المقدمة دوماً وأبدا نلاحظ في مصالح الانفصال أنها متوهمة وغير متحققة، فالشريعة في الشمال لا علاقة لها بالانفصال ولا بعدمه باعتبار أن الشريعة يتحدث الناس عن تطبيقها منذ عشرين عاماً وحتي هذه اللحظة لا يرى منها إلا القليل ولا يبدو منها إلا النزر اليسير، فهل يمكن القول بأن مفتاح الشريعة هو فصل الجنوب خاصة وأن من غير المستبعد أن يعاد طلب الدولة العلمانية من قبل حركات دارفور كعبد الواحد ذي التوجه العلماني  هذا إذا أحسنا الظن بخليل وأمثاله، فيمكن أن تضع هذه الحركات من شروط تفاوضها هذا المطلب وتضطر الحكومة أمام ضغط الوسطاء بالموافقة على ذلك.

أما مصلحة الدين في عدم الانفصال فهي متحققة وواضحة لا تخفى على أحد تمثلت في تمكن النصارى من الأرض التي كانت للمسلمين ترتفع فيها المآذن ويعلو فيها صوت المؤذن وتقام فيها شعائر الإسلام فتتحول بلاد المسلمين من أيديهم إلى أيدي أولئك النصارى.

 

وفتح الإرساليات وتكثيف التنصير لتكثير أعداد النصاري. يقول الشيخ محمد الغزالى رحمه الله:( قيل قبل خمسين سنة مما ذكره محرر "المصور" عن سياسة الإنجليز لتنصير جنوب السودان وهذه هى كلمته التى نشرها بعنوان: (هل قرأ الأزهرى-رئيس الحكومة- هذا المنشور؟) " لماذا يحب كثير من الناس أن يعتنقوا الإسلام؟ لأنه عقيدة سهلة، تسمح للناس بارتكاب خطايا كثيرة تلذ لهم. وتعلمهم احتقار الآخرين ". أ. هـ.

ذلك السؤال وهذا الجواب، هما ترجمة المنشور المكتوب بلغة جنوب السودان (بحروف لاتينية) مع ترجمة بالإنجليزية. وليس هذا المنشور إلا واحدا من عدة منشورات يوزعها الإنجليز فى جنوب السودان، باسم التبشير، أما الغاية الكامنة وراء هذه الحملة التبشيرية، فهى التفرقة بين شمال السودان الإسلامى، وجنوبه الذى تسرح فيه جماعة المبشرين وتمرح، حتى ينفصل الشمال عن الجنوب من الناحية الروحية، فيتاح للمستعمر أن يحقق أحلامه فى الجنوب، ويضمه إلى إمبراطوريته السوداء.
قال المحرر: وقد عاد مندوبنا من رحلته الأخيرة فى السودان يحمل هذه المنشورات المسمومة، المليئة بالطعن فى الإسلام والقرآن، إليك ترجمة منشور آخر منها: كيف نستطيع أن نعرف أن الإسلام ليس دينا صحيحا؟ لأنه ليس لهذا الدين (مخلص) يروى عنه، ثم إنه لا يمنح الناس قوة تقودهم إلى حياة جديدة، والقرآن ليس من عند الله.(18)

 

 

  وقد قامت الكنيسة بدورها منذ دخولها جنوب السودان من أجل فصله وإقامة دولة نصرانية تنفرد به وبأهله ومن ذلك:
1/دخلت الكنيسة الحرب وبقوة مع التمرد في الجنوب منذ استغلاله بغية تأجيج الصراع لتقوية مطلب الانفصال وقد كانت الحكومة أثناء الحرب تجد في طائرات الإغاثة ومخازن المنظمات ما يندا له الجبين.

2/إصرار الدول الكنسية على إدراج حق تقرير المصير ضمن بنود إتفاقية السلام مع أنه كان مرفوضاً وبشدة من قبل الحكومة التي صبت جام غضبها على الأحزاب الشمالية بسبب موافقتها عليه في أسمرا قبل ذلك.

3/ عززت الكنيسة من تميّز الجنوبين العرقي والثقافي واللوني والعنصري، وأوحت إليهم بأنهم مضطهدون ومواطنون من الدرجة الثانية ولا بد من الانفصال ليكونوا في بلدهم من الدرجة الأولى.

4/ في العام 1925م كتب سكرتير عام المنصرين بالسودان خطاباً لرئاسة منظمات التنصير بلندن يتهم فيه حكومة السودان بأنها تعرقل سير التنصير بالجنوب لعدة أسباب:

 

  أ/أن الحكومة تعين إدارين مسلمين (مآمير) بالجنوب.
 ب/تسمح الحكومة للتجار الشمالين بدخول الجنوب.
 ج/تسمح الحكومة لأبناء الجنوب المسلمين بدخول الجنوب بعد الإجازة السنوية(19)

  فيلاحظ حرص الكنيسة على الإنفراد بالجنوب ليكون لها ما تريد.  فكانت الاستجابة السريعة من الحاكم الإنجليزي الذي انتهج سياسة جديدة بناء على قانون المناطق المقفولة مكن بموجبها للنصارى في الجنوب.

  فالمنظمات الكنسية كانت ومازالت تعمل بجد واجتهاد حتى في ظل وجود الجنوب في السودان فعلى سبيل المثال منظمة (ميرسي كوربس) الأمريكية الإنجيلية والتي قضت 25 عامًا بالتنصير في جنوب السودان.
وتعد مؤسسة 'فرانكلين جراهام ساماريتانس بيرس' من أوسع المنظمات التنصيرية نشاطاً في جنوب السودان.و عدد النصاري في ازدياد بسبب الجهود المكثفة لهذه المنظمات وقدمت مؤخراً دراسة للأب الدكتور ج فانتين وتقول هذه الدراسة: إن عدد النصارى بالسودان كان عشرة أشخاص فقط في عام 1911م ميلادية.... أما اليوم فقد تجاوزوا أربعة ملايين نسمة من المسيحيين.

 

 وأعداد الكنائس بالسودان قد بلغ 1200 كنيسة في عام 1982 ميلادية بالإضافة إلى60 مركز تنصيري وعدد كبير من المؤسسات التنصيرية المتخصصة في التعليم والصحة..

   بل وهم يفكرون في أن يكون الجنوب نقطة انطلاق للشمال المسلم يقول المنصر الأوروبي (سبنسر) الذي كان يعمل في شمال السودان: (ضرورة العمل في إنشاء مراكز مسيحية في ديار الإسلام المحصنة في وجه المسيحية باختراقها في الشمال لتكون نقاط ارتكاز للمسيحية عندما تتدفق شمالاً).

  وقد فطن الرئيس الأسبق الفريق إبراهيم عبود لخطورة قوانين الإنجليز وجهود المنصرين فقام في العام 1962م بإلغاء قانون المناطق المقفولة وسن قانون التبشير حد بموجبه من دخل المنصرين لجنوب السودان حماية لعقائد المسلمين وفتحاً لباب الدعوة إلى الله في جنوب السودان وقضاء للكراهية التي زرعتها الكنيسة في عقول النصارى.ولكن للأسف الشديد حكومة الانقاذ التي توقعنا أن تجعل السودان بوابة لنشر الاسلام في أفريقيا أعدت دولة كنسية تكون منطلقاً للتنصير في الشمال والجنوب فكانت الأخطاء الاستراتجية الخطيرة في هذا الباب تمثلت في الأتي:-

 

 1/الغاء قانون التبشير بقرار جمهوري في العام 1994م فرح بسببه النصارى فرحاً شديداً حتى قال أحد القساوسة لإذاعة لندن:أعظم هدية من البشير الغاء قانون التبشير.

2/التنصيص على ايجاد مفوضية لغير المسلمين في الشمال في اتفاقية السلام وإهمال المسلمين في الجنوب وهذا كانت له آثاراً على الواقع عظيمة تمثلت في تمادي النصارى في ظلم المسلمين في الجنوب وشعورهم بالقوة والمنعة وشعور المسلمين بالاحباط من هذا الاهمال الواضح.

3/وكانت الطامة الكبري تقرير المصير الذي كانت تنتظره الكنيسة من زمان بعيد؛ فهم يريدون أرضاً كانت تابعة للمسلمين ليتم تمليكها للنصارى ليقيموا فيها شعائر الكفر ويفتح فيها باب التبشير على مصراعيه.

 يقول ابن تيمية: (لا نزاع بين المسلمين أن أرض المسلمين لا يجوز أن تحبس على الديارات والصوامع ولا يصح الوقف عليها بل لو وقفها ذمي وتحاكم إلينا لم نحكم بصحة الوقف. فكيف بحبس أموال المسلمين على معابد الكفار التي يشرك فيها بالرحمن ويسب الله ورسوله فيها أقبح سب.)(20)

 

وتسليم الأرض للنصارى مع وجود المسلمين ومساجدهم يوقعنا في جملة من المحظورات التي تعارض مصلحة الدين منها مايلي:

  أ/ جعل الكافرين على المؤمنين سبيلا وقد قال تعالى:( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا)سورة النساء آية(141).

  قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي:( أنه لا يجعل لهم عليهم سبيلا شرعا، فإن وجد فهو بخلاف الشرع وقال: وأخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة منع دوام ملك الكافر للعبد المسلم)(21)

 وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي: (مقصود الشرع أن يكون الكافر تحت المسلم، وألا يكون له سلطان على المسلم، ولو فتح لهم مثل هذا -خاصة في بلاد المسلمين- فإن الشوكة تكون لهم، وتكون لهم القوة، وقد يضر ذلك بمصالح المسلمين)(22)

ب/ محو الوجود الإسلامي والتمكين للكفر وإضعاف المسلمين وتذويبهم وارتفاع صوت الأجراس بدلا من الآذان والصليب بدلا عن المآذن. وإظهار شعائر الكفر.

 

 يقول محمد الغزالى رحمه الله:( هناك محاولات خبيثة لفصل جنوب السودان عن شماله، وذلك لإقامة دولة صليبية به! ومسلمو الجنوب يساوون فى العدد نصاراه، لكن الخطة موضوعة لتذويبهم فى صمت، وعدم الاعتراف بوجودهم وحقوقهم! فإذا قامت هذه الدويلة ومن ورائها الاستعمار العالمى فستخمد أنفاس الوثنية والإسلام معا خلال عشر سنين، وستختنق الجماعات الإسلامية المبعثرة فى ست دول لا حول لها ولا طول وسيتم الفصل بين أفريقيا السوداء، وبين أفريقيا العربية المسلمة فى الشمال وسوف يستسلم المكافحون فى صمت وسط القارة لمصيرهم الكالح)(23)

 

 وليعلم القارئ أن الحركة الشعبية منذ أن وطئت أقدامها أرض الجنوب بعد توقيع اتفاق السلام فإنها سعت إلى محو الوجود الإسلامي ومنع النشاط الدعوي وإغلاق المؤسسات الدعوية ككليات القرآن الكريم بجوبا وواو ومكتب العقيدة والدعوة التابع للحكومة المركزية ومكتب ديوان الزكاة وحولت بعض المساجد بمنطقة (بور) إلى مساكن للجيش الشعبي بل وأصدر ما يسمى بالمجلس الاسلامي الأعلى للسودان الجديد بيانا في جريدة الرأي العام منع بموجبه العمل الدعوي في الجنوب إلا بإذنه دون التفات لوزارة الأوقاف الاتحادية المشرفة على الدعوة في كل السودان، مع فتح الباب على مصراعيه للمنظمات الكنسية،هذا كله فعل والجنوب تحت سلطة المركز فما بالك لو انفصل؟.

 

 
د/ازدياد حركات التنصير ضد المسلمين الجنوبين لتوفر كافة الوسائل من سلطة نصرانية وكنيسة مشرفة ومسلم جاهل محتاج أهمل حتى في ظل الدولة المسلمة، وتعريض المسلمين للفتنة وترك الدين. ولا يجوز لمسلم مولاة أي كافر على أخيه المسلم. فمساعدة السلطة الجنوبية النصرانية على فصل الجنوب واستلامه مع وجود المسلمين ضرب من ضروب مولاة الكافر وقد قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(24)

  فأهل الوحدة بهذا يقولون إن المحافظة على العقيدة بعد ما عرضنا ماهو واقع أرجح من مصلحة إقامة الشريعة في الشمال وإن كانت مصلحة دينية ولكنها متوهمة و قد لا تتحقق لظروف مشابهة فتبين أنها مقدمة وراجحة يحرم بسببها الانفصال.

ثانياً:وأما مصلحة النفس والأطراف وإن كانت حقيقية ولكنها بذلت في سبيل الحق والدين وتعارضها مع ذلك يؤكد إهمالها.

 

ثالثاً:وأما مصلحة المال أي التحلل من عبء الجنوب  فإن استحقاق انفصال جنوب السودان  أكبر من استحقاق وجوده باعتبار أن البترول المكتشف الآن أغلبه في الأراضي التابعة للجنوب وميزانية الدولة تعتمد بنسبة عالية عليه الآن وبعد الأنفصال مع احتمال الحرب الذي بدأت مقدماتها، أو الإنفاق العام فإن الدولة تلجأ إلى فرض الرسوم والضرائب الإضافية وزيادة الجمارك ورسوم المحليات وغير ذلك لتغطية الثغرة التي خلفها البترول ولا شك أن هذا له أثاره على معاش الناس وله أثاره الاجتماعية والأخلاقية والسلوكية. فمصلحة المال في الوحدة أرجح من مصلحة المال في الانفصال.

وعلى فرض وجود المصلحة المتعلق بالمال وهي التي يركز عليها دعاة الانفصال فهي معارضة بمصلحة الدين التي هي مقدمة علي مصلحة المال وعلى مصلحة النفس التي هي أعلى مرتبة منها،والتي من أجلها شرع الجهاد في سبيل الله الذي تذهب فيه الأرواح ليبقى الدين قال تعالى:( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِين)(25)

ومما سبق يتبين لنا أن مفاسد انفصال الجنوب أرجح من مصالحه فلزم الحفاظ على مصالح الوحدة وتفويت مصالح الانفصال لضعفها كتفويت مصلحة الانتشاء عند شرب الخمر لعظم المفسدة الحاصلة المتمثلة في ذهاب العقل. والله تعالى أعلم.

 وأما حالة الضرورة فإنها حالة لا يقاس عليها فهي حالة استثنائية لها شروطها وضوابطها لايجوز التوسع فيها بغير ذلك وإلا كان عبثاً ولربما أشرقت علينا الشمس يوماً ونحن نتعبد الله بالضرورة بعيداً عن الشرع وهذا بالتأكيد ما لم تقصده الشريعة من تشريع حالة الضرورة.

 

 

النظر الثاني: اعتبار المآل:

  ونعني باعتبار المآل: النظر إلى النتائج باعتبار أنها الثمرة المرجوة والمطلوبة.ومعناه أننا يجب أن نفكر في عواقب ما نفعل. 

  يقول الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ في أهمية اعتبار المآل عند النظر والاجتهاد:(النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً سواء كانت الأفعال موافقة أو مخالفه، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون ؛ مشروعاً لمصلحة قد تستجلب أو لمفسدة قد تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع، لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحه تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من انطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة مثلها أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جارٍ على مقاصد الشريعة )(26)

  فقاعدة اعتبار المآل أصل ثابت في الشريعة دلت عليها النصوص الكثيرة بالاستقراء التام(27).ومن ذلك مايلي:-

1/ قوله تعالى : { وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} سورة الأنعام، آية : 108.

2/ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أشير إليه بقتل من ظهر نفاقه قوله : ( أخاف أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه )(28).

إلى غيرها من النصوص المتواترة في اعتبار هذا الأصل(29).

 


ففصل الجنوب يُفضي إلى أحد ثلاثة أمور، مآلاً، وكلها يحرم المصير إليه:

1/وهو أخطرها فتح شهية الأقاليم الأخري للانفصال عن السودان بنفس الطريقة والاسلوب. فهاهي حركات دارفور المسلحة  باتت تطرح تقرير المصير  وتتحدث عنه من حين لآخر بل والحركة الشعبية في الجنوب ستتولى القيام بهذا الدور حيث بدأت الآن تحتضن حركات دارفور وتفتح لهم الأرضي وتهيئ لهم اللقاءت مع أعداء السودان داخلها ولا يخفى على أي صاحب أدنى بصيرة حرمة فصل دارفور المسلمة عن السودان. وهاهي جنوب النيل الأزرق تنقل السلاح دون إذن من الحكومة المركزية وهي تعد نفسها للدور القادم وبدأت بالفعل نقل عاصمة الولاية إلى مدينة الكرمك الحدودية دون مشورة الحكومة المركزية  مع العلم أن أطراف السودان أغلبها ملتهب ويتربص كيف تحسم مشكلة الجنوب مع توفر الدعم لكل طالب من أعداء الدين.

2/الخشية من أن يصبح السودان قدوة سيئة للدول الإسلامية في هذا الجانب أي فتح شهيتها للتنازل عن أراضيها طواعية لغير المسلمين.

3/تقديس قوانين الأمم المتحدة مع مخالفتها لشريعة الله وظلمها للأمة المسلمة ومنها حق تقرير المصير، فقد ذهبت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم (2625) الصادر في 24/11/1970م  حق الشعوب في تقرير مصيرها وهو من مبادئ القانون الدولى وجاء فيه(بموجب مبدأ التسوية في الحقوق وتقرير المصير للشعوب المعلنين في ميثاق الأمم المتحدة، لكل الشعوب الحق في أن تقرر دون تدخل أجنبي مركزها السياسي وأن تسعى لتأمين توجهها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وعلى كل دولةواجب احترام هذا الحق وفق نصوص الميثاق).

  وكان هذا التقديس على حساب دعوة الإسلام للاحتكام للشرع ونصوص الوحي المبارك فلربما أدى ذلك إلى تحلل الناس من شريعة الله والتمسك بقوانين الغرب.قال تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا)(30). 

 


النظر الثالث: سد الذريعة:

 سد الذرائع من حيث المبدأ هو النظر إلى الصالح العام فيجب اتخاذ الذريعة لتحقيق مصلحة عامة ويمنع اتخاذ الذريعة درءا للمفاسد فالميزان هو جلب المصالح ودفع المفاسد ما أمكن الدفع والجلب، ولا يخالف في ذلك أحد. ولا يجوز لأي شخص أن يستمسك بمصلحة مباحة له إذا أدى الاستمساك بها إلى إحداث ضرر عام، أو منع مصلحة عامة.

 فقد يكون العمل في الأصل مشروعاً لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة، أو ممنوعاً لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة.

ولا أحد يخالف في أن فصل الجنوب إن كان مباحاً فإنه ذريعة لتقسيم السودان وتمزيقه وذريعة لحصول مفاسد عظيمة دينية ونفسية ومالية كما ذكرنا سابقاً.

 


الخاتمة

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
 فقد نظرت في نازلة فصل الجنوب التي بين أيدينا نظرا مقاصدياً استدللت فيه بثلاثة أدلة مقاصدية هي:
1/المصلحة الشرعية.
2/اعتبار المآل.
3/سد الذرائع.

وتبين لى بعد عرض كل الحيثيات والوقائع والمصالح والمفاسد أن مصلحة الوحدة أرجح من مصلحة الانفصال ومفاسد الانفصال أعظم من مفاسد الوحدة  فيكون الانفصال باطل وما استند إليه من تقرير للمصير الذي أٌعطي للجنوبين بموجب اتفاقية السلام الشامل باطل ولا يجوز.

والله تعالى أعلم

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
  (1)الطرق الحكمية - ابن قيم الجوزية ص18
  (2)ابن منظور، لسان العرب،الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ص: 396.
  (3)مقاصد الشريعة الإسلامية، ص51.
  (4)/انظر الموافقات في أصول الشريعة  للشاطبي 2/10
  (5)القواعد الفقهية للسلمي ص1.
  (6)روضة الناظر، ص 169.
  (7)مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 11 / 342.
  (8)القواعد الفقهية عياض السلمي ص1
  (9)قواعد الأحكام 1/12
 (10)مجموع الفتاوي19/298
 (11)تخريج الإحياء 5 / 143 
 (12)المحصول6/223
 (13)قواعد الأحكام ص4
 (14)مجموع الفتاوى 10/512.
 (15)الاستقامة لابن تيمية 1/439
 (16)التجربة الديمقراطية وتطور الحكم في السودان ص578
 (17)المرجع السابق
 (18)ظلام من الغرب ص5
 (19)التجربة الديمقراطية وتطور الحكم في السودان ص578
 (20)مجموع الفتاوى 28/655
 (21)أضواء البيان 1/320
 (22)شرح زاد المستقنع للشنقيطي9/451.
 (23)الحق المر  ص86
 (24) سورة المائدة آية 51
 (25)سورة البقرة آية193
 (26)الموافقات 5/179
 (27)انظر : الموافقات 5 / 179.
 (28)أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب ما ينهى عن دعوة الجاهلية رقمه ( 3257 )،وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً، رقمه ( 4682 ).
 (29)انظر : الأشباه والنظائر للسيوطي ص 322-325 ؛ إعلام الموقعين 3 / 108 110 ؛ نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي د. حسين حامد حسان ص 193 -199، مكتبة المتنبي بمصر 1981م.
 (30)سورة النساء آية 60