هل تبقى لها حلاوتها؟
14 محرم 1432
أحمد بن راشد بن سعيّد

ترى هل سنصحو يوماً على رائحة القهوة تملأ المكان لكن من دون تصفح يوميتنا المفضلة؟ هل انتهى عصر الجريدة القومية التي يتلقفها المواطن مطالعاً عناوينها وقصصها وأخبارها الطريفة وأعمدة رأيها وإعلاناتها المبوبة؟ هل الصحافة الورقية في طريقها إلى التلاشي أمام سطوة الشبكة التي تتسع يوماً بعد يوماً لتلتهم الأخضر واليابس في عالم بات يعرف "بالإعلام القديم"؟ كل جديد له حلاوته، أليس كذلك؟ ربما كانت إذاً فورة مؤقته يؤججها الاحتفاء التقليدي بالجديد، وسرعان ما تذهب السكرة وتعود الفكرة، وترى الناس مرة أخرى يحتضنون يومياتهم مع إشراقة كل صبح، ويتناولونها جنباً إلى جنب مع قهوة تملأ نكهتها الساحرة الأنوف والصدور.

 

 

الأزمة ضربت الجرائد في كل مكان، لكن الصحافة الأميركية تدفع الثمن الأكبر لانتشار وسائل الإعلام الجديد، ما دفع إلى تراجع أرقام التوزيع وعوائد الإعلان. حتى السيدة الرمادية (صحيفة النيويورك تايمز) ترزح تحت  وطأة الدين وتصارع الموت. خلال السنوات الخمس الماضية تراجع هامش ربح الصحيفة بأكثر من 50 في المائة. وكان عليها أن تسدد في شهر أيار (مايو) 2009 400 مليون دولار مستحق على الصحيفة، إضافة إلى ديون أخرى تبلغ بليون دولار. رئيس تحريرها التنفيذي السابق، آبي روزنثال، صرح أنه لايتخيل عالماً من دون التايمز، لكن كل شيء يؤكد أن أسوأ خيالاته يلوح في الأفق. صحف ومجموعات إعلامية عدة في الولايات المتحدة مرشحة للإفلاس، وبعضها توارت فعلاً عن الأنظار. شركة "تربيون" التي تملك صحفاً قومية واسعة الانتشار مثل لوس أنجلس تايمز وشيكاغو تريبيون ونيوزدي بدأت إجراءات إشهار إفلاسها إثر عجزها عن سداد ديون متراكمة بلغت 13 بليون دولار. لوس انجلس تايمز استغنت في العامين الأخيرين عن 300 وظيفة. شركة هيرست المالكة لصحيفة سياتل بوست إنتلجنسر أعلنت أن لديها 60 يوماً فقط لتحصل على مشتر للصحيفة أو ستتعرض للإغلاق (موقع ديلي إيستمت، 3 شباط/ فبراير 2009). لكن الصحيفة أصدرت آخر نسخة ورقية لها في 17 آذار (مارس) 2009، وصدرت (أون لاين) بدءاً من اليوم التالي وحتى الآن. في أيلول (سبتمبر) الماضي بلغ عدد زوار الصحيفة قرابة مليونين وثمانمائة ألف زائر، أي 208 آلاف زائر يومياً.

 

 

في عام 2008 بلغ عدد الصحف الأميركية التي احتجبت عن الصدور 25 صحيفة أشهرها نيويورك سن وبوسطن ناو، وفقد نحو 16000 صحافياً وظائفهم. صحيفتا بوسطن غلوب وبالتيمور سن استغنتا عن كل مراسليهما في الخارج. ومنذ وفي مطلع عام 2009 اختفت 22 صحيفة و20 ألف وظيفة، بحسب إريكا سميث، التي تدير مدونة "بيبر كت". وتشير التقديرات الحالية إلى أن أعداداً كبيرة من الصحف تتراوح بين 700 و1400 ستتوقف عن الصدور قبل نهاية العقد القادم، وفقاً لجان سكافر، المدير التنفيذي لجي لاب (معهد الصحافة التفاعلية). صحيفة الواشنطن بوست، ذات الحظوة الواسعة لدى صانعي القرار والمشرعين الأميركيين في العاصمة واشنطن، انخفضت أرباحها خلال السنوات الخمس الماضية أكثر من 25 في المائة، وأوقفت النسخة المطبوعة لملحقها الأسبوعي الشهير بوك وورلد في 15 آذار (مارس) 2009. وضع الصحافة الورقية أصبح يدعو إلى اليأس، ما دفع بعض المهتمين إلى تنظيم جهود جماعية لنشر الوعي بأهمية بقائها وخطورة اختفائها، وهي جهود تبذل عادة للتحذير من بعض الأمراض الخطيرة، أو الدعوة إلى المحافظة على مخلوقات نادرة من الانقراض. وقد اختار هؤلاء الناشطون يوم الإثنين الثاني من شهر شباط (فبراير) 2009 ليكون "اليوم الوطني لشراء الجريدة" (موقع ديلي إيستمت، 3 شباط/ فبراير 2009؛ الغارديان، 2 شباط/ فبراير 2009)، وظهرت مواقع شبكية مخصصة لدعوة المواطنين في الولايات المتحدة لشراء الصحف وإبقائها حية، بدعوى أنها ظاهرة حضارية ووسيلة لا غنى عنها لإعلام المواطن بحقائق ما يجري على الصعد الجغرافية كافة: المحلي، الوطني، والعالمي.

 

 

أصبحت كثير من الصحف تضع محتواها كاملاً بين أيدي القراء مجاناً عبر الشبكة، وتستقبل مواقعها متصفحين أكثر بكثير من مستهلكي النسخ الورقية. خلال شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2008 زار موقع النيويورك تايمز 20 مليون شخص، ماجعله يحتل المرتبة الخامسة على الإنترنت فيما يتعلق بمجموع الزائرين، بينما لاتتجاوز مبيعاتها من المنتوج الورقي مليون نسخة. اللافت والمحير معاً أن الربح الذي يدره مليون قارىء على الصحيفة هو أضعاف ما يقدمه عشرون مليون زائر. وبالرغم من السهولة والمرونة اللتين توفرهما الإنترنت إلا أن هذا النمط الجديد من التلقي والتفاعل يعزز "الاستهلاك الكسول" للأخبار، ويضعف إلى حد كبير الفروق بين الصحف. ما يحدث للسيدة الرمادية يحدث بالطبع للصحف جميعاً داخل أميركا وخارجها. لكن المثير في الشأن الأميركي تحديداً أن الصحافة الورقية كانت دائماً جزءاً من النسيج الديموقراطي والحراك الاجتماعي في الولايات المتحدة، كما اعتبرت رقيباً على أداء السلطتين التشريعية والتنفيذية، أو رافداً من روافد السياسة الخارجية، ولاشك أن غيابها أو اضمحلالها سيخلق فراغاً هائلاً في مجالات الحياة كافة. حتى المواطن العادي الذي اعتاد قراءة يومية مدينته أو بلدته كل صباح، سيجد نفسه رغماً عنه منفصلاً عن ممارسة حضارية أشبه بالطقوس والشعائر، وقد طبعت هذه الممارسة طريقة حياته، وأصبحت جزءاً من نمط معيشته. انهيار الصحافة الورقية يعني أيضاً نهاية نمط من الكتابة والتحليل درج عليه آلاف الصحافيين والكتاب والمثقفين. وفوق كل هذا، ستتوراى متعة احتضان المطبوعة المفضلة، وتقليب صفحاتها بعفوية، والاحتفاظ بها أو بجزء منها.

 

 

هل الصحافة الورقية تلفظ أنفاسها؟ الحقيقة أنها تواجه تحدياً مصيرياً، ومالم تسع للتغلب عليه، فسيتجاوزها الزمن، وستختار الأجيال الجديدة الإعراض عنها إلى الأبد. تستطيع هذه الصحافة مواجهة التحدي وإثبات الذات إن هي اهتمت بالمضمون، وسخرت مهارات محرريها وقدراتهم لإثرائه. تحتاج الصحافة إلى مضامين غنية وجذابة ومثيرة وحيوية، يتم بثها عبر وسائل مختلفة كالمواقع الإلكترونية وأجهزة المحمول والحاسوب الحضني. الصور والأخبار والتعليقات والتقارير الاستقصائية المتسمة بالتوازن والتوثيق وغزارة المعلومات هي لب الصحافة الحقيقية. عندما نعتني بالرسالة ونهتم بعناصر التشويق والإبهار والتنويع والابتكار وتحسس نبض المواطن والاقتراب من قضاياه وهمومه وتشجيع التفاعل الحقيقي (لا الشكلي أو المختلق) وتوسيع هامش حرية النشر والاحتفال بالنقد، فإننا نقترب حتماً من كسب معركة العقول والقلوب. تنمو سائل الإعلام وتتناسل لكن لايلغي بعضها بعضاً. ربما تضعف وسيلة ما لكنها تبقى، وقد يكون هذا الضعف حافزاً للتنافس وتطوير الأداء. وسائل الإعلام الجديدة مدعومة بانتشار استخدام الشبكة (في الوقت الراهن يستخدم أكثر من بليون شخص الإنترنت من المتوقع تضاعفهم إلى بليونين في غضون عشر سنوات)، والتراجع المتواصل في تكاليف الحواسيب الحضنية، ستجعل صمود الصحافة الورقية أمراً صعباً، لكنه يبقى ممكناً. وربما يساعد كونها جزءاً من الإعلام "الكلاسيكي" على تشبث الجمهور بها والحنين إليها، فالقديم يظل حلواً وإن تجاوزه الزمن.

المصدر/ السعوديون