أنت هنا

إفساد المناخ وعقدة قارون..
26 ذو الحجه 1431
موقع المسلم

تثير تبدلات الحادة قلقاً عالمياً منذ سنوات، لكنا في العام الجاري تدفع إلى شيء من الهلع، في أوساط العلماء والخبراء. وهؤلاء يفزعون بعقولهم المشتهرة ببرودها، على نقيض عامة البشر الذين يدهشهم  الجو شبه الحار في مثل هذه الفترة التي تدخل عادة في قلب الشتاء، ويوازي الحرارة المرتفعة نهاراً جفاف عارم يشمل الشرق كله تقريباً. وفي المقابل يشهد الغرب  موجة صقيع مخيفة وهطل ثلوج تجمد حركة كثير من المطارات  وتوقف السيارات في وسط الطرق وعلى جوانبها. . . فالعلماء أسبق في الاهتمام وأعمق دراية بحكم تكوينهم وطبيعة البحث العلمي، أما عام الناس فلا يأبهون بالمسألة-غالباً- إلا عندما تستفحل وتمس نمط حياتهم أو تهدد منافعهم الذاتية المباشرة.

 

وفي الأوساط العلمية، تتفجر الأسئلة وتتناسل علامات الاستفهام وإشارات التعجب، بحثاً عن تفسيرات مُقْنِعة لهذا الانقلاب المتصاعد، بما ينطوي عليه من نُذُر واحتمالات سوداوية، أما الحلول والمعالجات فتبدو الآن سراباً أو نوعاً من ترف فكري لا تسمح به الأخطار المطلة بوجهها الكالح والضاغطة بنتائجها المؤلمة.

 

إلا أن البحث العلمي في الدول الرائدة-وهي بلدان الشمال الصناعي الغربية أصلاً أو بالتبعية-يشكو من خلل قاتل، فهو على تقدمه المبهر تقنياً ومهنياً، يتجاهل الغايات ويتنكر للأبعاد القيمية  الأخلاقية-بالمعنى الواسع لا الضيق لمفهوم الأخلاق-. وهذه العلة قديمة بل بنيوية تعود إلى نشأة العلم في الغرب منذ ما يسمونه"عصر النهضة" حيث بدأ انطلاقته في مناخ مناوئ للدين بتأثير طغيان الكنيسة وتخلفها ومناوأتها للعلم والعقل وحربها على كل فكر حر.
ولأن الغرب مختنق دائماً بعقدة تفوقه وتفرده المطلقين بحسب الوهم المتجذر في العقل الجمعي للغربيين، فإنه لجأ إلى تعميم صراعه مع تسلط الكهنة النصارى على كل ملة أخرى بلا أدنى مناقشة أو تمحيص. بل إن الغرب اللا ديني لم يحتفظ من ركام القرون المظلمة بغير كرهه الشديد للإسلام تحديداً.

 

من هنا يدرك اللبيب سر إخفاق العلم المتقدم تقدماً مذهلاً عن إبصار الجانب القيمي الجلي في نصوص الإسلام، وإن كانت هنالك بدايات خجلى تسعى إلى القبول ببعض القيم شريطة محو هويتها الإسلامية!!
وإذا كنا نحن المسلمين اليوم-لأسباب شتى ومعقدة-لا نصلح لتقديم واقعنا كأنموذج يعبر عن عظمة مبادئ ديننا الحنيف، فإن لمحة خاطفة في هذه العجالة تكفي لبيان ما يمكننا عرضه لو تخلصنا من عاهاتنا الراهنة، وما يستطيع العلم الموضوعي أن ينهله من ينابيعنا الصافية  لفائدة البشرية  حتى لو أصر المتعنتون على رفض الثمرة المنطقية لهذا الاقتباس-على غرار أخذهم أسس نهضتهم عن أسلافنا  بعد تنحية بصمتها الدينية المتميزة-.
ولنتأمل بدايةً في قول الحق تبارك وتعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) سورة الروم /الآية41.  فطغيان الإنسان ومخالفته لمنهج الله هو العنصر الجوهري في ظهور الفساد العام سواء أكان أخلاقياً معنوياً أم مادياً ملموساً، اجتماعياً أم بيئياً.

 

ولعل أدق ما يفسر طغيان بني آدم الذي ينتج فساداً مؤذياً، هو ما أبانه ربنا سبحانه في قصة قارون :
(إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ *قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)  سورة القصص/الآيات 76-83.
فعقدة قارون هي اغتراره بما حباه الله من نِعَمٍ وجحوده للمنعم سبحانه ولذلك لا يقف النمط القاروني في طغيانه عند حد إلا عندما يأخذه الله تعالى بعد استدراجه وإقامة الحجة عليه.
وقارون مجرد نموذج يشخص الظاهرة، في حين أنها عامة في أمثاله في كل زمان ومكان ممن يعرف ربه في حال الكرب والشدة، لكنه ينتفش إذا أغدق الله عليه فإذا به يطغى متوهماً أنه استغنى عن خالقه ورازقه عز وجل. قال عز من قائل:(فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)   سورة الزمر/الآية49.

 

وها هي البشرية في وقتنا الحاضر تعاني من استشراء العقة القارونية المُهْلكة، لينطبق عليها الإنذار الإلهي المخيف: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)    سورة يونس/الآية24.
أفلا ننهض بواجب البلاغ من هذا المدخل الإنساني الحيوي، إلى أن نستيقظ من غفوتنا الحضارية التي طال أمدها، ونحن شركاء في استمرار غشاوتها بالرغم من تأثير الغرب السلبي المزمن فيها!!