تونس: مراوحات الدولة الفاشلة
25 ذو الحجه 1431
عبد الباقي خليفة

تستمر معاناة تونس في ظل النظام القائم منذ أكثر من نصف قرن، وذلك على مختلف الأصعدة السياسية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، وهوما تعكسه حالة الانسداد السياسي، ورفض النظام اجراء أي اصلاحات تتعلق بحرية التنظيم السياسي، وحرية العمل ، وحرية التعبير، وحرية الصحافة، والحرية الدينية . وسط حالة عامة من تسييس المؤسسات، كالقضاء، والشرطة، والجيش، والمال العام، لخدمة أجندة السلطة الحاكمة بقوة الحديد والنار، وبدون أي تفويض شرعي من الشعب. ووسط هذه المحرقة لا يزال آلاف التونسيين في الخارج والداخل ينتظرون ساعة حصولهم على جوازات سفرهم التي لا يزالون محرومين منها منذ وصول بن علي إلى الحكم عقب انقلاب 7 نوفمبر 1987 ضد الرئيس السابق الحبيب بورقيبة.

 


وثائق ويكيليكس:
تكشف الوثائق التي سربها موقع، ويكيليكس، أن " الرئيس بن علي ونظامه فقدوا التواصل مع الشعب التونسي، ولا يتحمل النصح فضلا عن النقد سواء كان محليا أو دوليا، وتعاظم اعتماده على استخدام البوليس من أجل السيطرة والحفاظ على السلطة " وتشير تلك الوثائق إلى أن " الفساد يتعاظم في عمق دائرة بن علي وحتى التونسيين العاديين أصبحوا على علم كبير بكل ذلك ، والتشكي والتذمر في تصاعد شديد" وتقر الوثائق بأن تونس تقاد بحكم مستبد لا علاقة له بالشرعية السياسية للأنظمة الحاكمة في العصر الحديث" ليس هناك امكانية على الإطلاق لأن تكون الانتخابات حرة ونزيهة ، وحرية التعبير وحرية التنظم تخضع لضغوط عالية جدا، ولا يسمح لأحزاب المعارضة أن تنشط بشكل طبيعي " وتكشف الوثائق أيضا التواطؤ الفرنسي والايطالي مع النظام في تونس على حساب الحريات وحقوق الانسان في تونس" نجد أن دولا أساسية أخرى مثل فرنسا وايطاليا يتعاملون باستحياء مع الحكومة التونسية إذ لا يمارسون أي ضغط على النظام التونسي، ومن هنا لا بد أن نعمل من أجل دفعهم ليقوموا بذلك، وأن يكون مطلب الشريك المتقدم مع الاتحاد الاوروبي إحدى الشروط مقابل الانفتاح السياسي" ولكن النظام التونسي يمارس الخداع مع الاتحاد الاوروبي، والولايات المتحدة في نفس الوقت " في أغلب الأحوال تفضل الحكومة التونسية سراب الالتزام عوض التعاون والعمل الجاد مع التأكيد أن التغيير الكبير في تونس لن يتم إلا بعد ذهاب بن علي، فتونس لديها مشاكل كبرى وبن علي يتقدم في السن وليس له خليفة واضح ، ونظامه مريض والكثير من التونسيين غاضبين جدا من حكومتهم لغياب الحريات السياسية وغاضبين من فساد العائلة الحاكمة في البلاد " وتقر الوثائق بأن " تونس دولة بوليسية مع شيء لا يكاد يذكر من حرية التعبير والتنظيم ، بالإضافة إلى المشاكل الخطيرة في مجال حقوق الانسان. وأمام تحقق أي خطوة إلى الأمام هناك خطوة إلى الوراء، مثل السيطرة الأخيرة لعناصر مقربة من الرئيس بن علي على الكثير من وسائل الاعلام" وتشير الوثائق إلى أن " التونسيين يبغضون ويحتقرون بشدة السيدة الأولى ليلى الطرابلسي وعائلتها وكلما كانت هناك مجالس خاصة فإن معارضي النظام يستهزؤون بها ، بما في ذلك المقربين من الحكومة فإنهم يعبرون عن امتعاضهم من سلوكياتها، وفي نفس الوقت يتصاعد الغضب بسبب البطالة العالية وغياب المساواة بين الجهات التي تشكو منها تونس. ونتيجة لهذا فإن ازدياد المخاطر على استقرار النظام على المدى البعيد تتصاعد باستمرار"

 

تدمير المجتمع المدني: بقطع النظر عن الدعاية الرسمية التي تزعم بأن مؤسسات المجتمع المدني لا تحتاج إلى ترخيص، وإنما إلى الاعلان عن نفسها، فإن الكثير من المؤسسات تعرضت للإيقاف وللتحقيق في مخافر الداخلية، لأنها لا تتساوق وسياسة النظام الحاكم. بل إن عدم التماشي مع السياسات السلطوية أودى بالصحافي الفاهم بوكدوس، إلى السجن والحكم عليه بأربع سنوات كاملة، جزاء تغطيته لأحداث الحوض المنجمي. والاعتداء المتواصل على الصحافيين، بالعنف والبذاءات اللفظية كما هو حال عمار عمروسية وآخرين . ومحاصرة النشاط الطلابي والاعتداء على الطلبة سواء في تونس أو سوسة أو صفاقس أو القيروان وغيرها . ومنعت السلطات المكتب الشرعي لجمعية القضاة التونسيين من حضور مؤتمر الجمعية الايطالية للقضاة. كما يواصل النظام تدمير الكفاءات التونسية، كالدكتور الصادق شورو الذي قضى أكثر من 20 سنة داخل السجن منها 13 سنة في زنزانة انفرادية . والبروفيسور منصف بن سالم الذي حوله القهر السياسي من باحث لامع في الفيزياء واستاذ زائر في العديد من الصروح العلمية في العالم إلى بائع خضار، أو طرد عشرات الكفاءات التعليمية كرياض الشعيبي وغيره . إضافة إلى منع العديد من المناضلين من السفر، كعلي بن سالم على سبيل المثال لا الحصر.

 


 
التعذيب سياسة ممنهجة:
اتسم عهدي بورقيبة وبن علي بالفظاظة والقسوة الأمنية في التعامل مع المعارضين، ولا سيما اليسار وبدرجة أشد أبناء الحركة الاسلامية بفضيلها الأكبر ممثلا في حركة الاتجاه الاسلامي، النهضة حاليا، أومن بقية الطيف الاسلامي، حزب التحرير، والجبهة الاسلامية، وغيرها. بل طال البطش جماعات لا تمارس السياسة كبعض الصوفية، وجماعة التبليغ . وفي السنوات الأخيرة تعرض المئات من الشباب التونسي إلى تعذيب وحشي، تحت ذريعة ( مقاومة الإرهاب ) والذي سن لتبريره قانون الارهاب، سيء الذكر الذي تم اعتماده في 10 ديسمبر 2003 م .ويعد الطلبة من أكثر ضحايا نظام الارهاب في تونس، ومن بينهم الطالب وسام الأطرش الذي تعرض للتعذيب الشديد من قبل عناصر ما يسمى بأمن الدولة . بل إن التعذيب والمحاكمة والسجن ( التعذيب يسبق المحاكمات ويتزامن معها ويعقبها في تونس ) تطال النوايا، فيدان الضحية بأنه ( كان يفكر في الذهاب إلى العراق )أو ( افغانستان ) أو( يفكر في احياء جمعية غير مرخص لها ). وهي التهمة التي طالت عدد من المناضلين والطلبة من بينهم الطالب علي بن عون ، وعلي الحرابي، وعلي بن فرحات، والآخرين سجينان سياسيين سابقين. وتفيد تقارير المنظمات الحقوقية أن حالة القمع في تصاعد لا مثيل له فقد ذكرت منظمة حرية وإنصاف، الحقوقية التونسية في المدة الماضية بأن ، سجين الرأي السابق ، خالد بن الطاهر العروسي مولاي علي ( 29 عاما ) اختفى بعد دخوله إلى أحد مراكز الشرطة . وذكرت منظمة حرية وإنصاف ، في نفس البيان أن " الناشطة الحقوقية والنقابية، وعضو المكتب الفيدرالي بكلية الآداب والعلوم الانسانية بمدينة صفاقس ، ( جنوب تونس ) وعضو مجموعة جبنيانة لمنظمة العفو الدولية دلال الزعيبي ، دخلت في إضراب مفتوح عن الطعام ، منذ الاسبوع الماضي ، احتجاجا على غلق نادي آفاق للإعلامية الموجه للطفل بجبنيانة ، والذي أسسته مع زوجها ، هيثم المحجوبي ، من قبل جهاز البوليس السياسي عقابا لها على نشاطها النقابي ". كما يتعرض مناضلو المعارضة والمجتمع المدني والاعلاميين للاضطهاد والتضييق المعيشي والتعذيب والمحاكمات الملفقة في اجراءات أقل ما يمكن أن يطلق عليها أنها " ارهاب دولة ". وقد طال هذا الارهاب حتى القضاة، كالقاضي السابق صالح بن عبدالله فقد تعرض للاعتداء بالعنف ، وتم تقديمه للمحاكمة بتهم ملفقة .وفي سبتمبر الماضي أعلن المدير المسؤول لصحيفة الموقف التونسية نجيب الشابي عن مواصلة إضرابه عن الطعام احتجاجا على منع توزيع صحيفته. كما يواصل السجين السياسي السابق عبد اللطيف بوحجيلة إضرابه عن الطعام منذ 11 أكتوبر الماضي احتجاجا على حرمانه من العلاج ومن جواز السفر.ولم يسلم الناس من بطش قوات القمع حتى في العيد حيث طاردت قوات القمع سجين الرأي السابق آدم بوقديدة مما اضطره لمحاولة الفرار فسقط من الطابق الثاني مما أدى لكسور في كلتا يديه وكسر في ركبته ونزيف داخلي اضطره إلى المكوث حتى الساعة في غرفة الانعاش بالمستشفى . وكان عدد من المناضلين الحقوقيين قد أعلنوا عن تنظيم وقفة احتجاجية ضد سياسات التعذيب في تونس يوم 9 ديسمبر2010 م احتجاجا على ممارسة النظام التونسي لسياسة التعذيب الممنهج للمناضلين السياسيين واضطهاد المعارضين ، والدوس على حقوق الانسان الأساسية التي تمثل القيم المشتركة لكل الانسانية . ويأتي هذا الاحتجاج الذي تنظمه جمعية التضامن التونسي ، وجمعية الزيتونة ، ومنظمة صوت حر، ولجنة احترام الحريات وحقوق الانسان في تونس، واللجنة العربية لحقوق الانسان ، والحملة الدولية لحقوق الانسان في تونس ، وس أو أس تونس، ضمن سلسلة من التحركات للمطالبة بإيقاف التعذيب وانتهاكات حقوق الانسان في تونس، تحت عنوان، لا للتعذيب.. نعم لحقوق الانسان .. من أجل الحقوق والحريات في تونس.

 

 
انحدار ثقافي واخلاقي: بعد حادثة سباحة بعض طالبات كلية الشريعة في تونس بالبكيني، وصيحة أحد جلاوزة النظام بأن " الزيتونة " تحررت من عقدتها . والتي تزامنت مع حرب شعواء ضد الحجاب الشرعي، وحرب الاستئصال التي طالت كل نفس اسلامي، فضلا عن قادة وأعضاء حركة النهضة . بعد ذلك وغيره شهدت تونس في ظل النظام الحاكم حالات انحدار كثيرة من بينها الفن الهابط الذي طغى على البلاد والذي يعكس رغبة العائلة الحاكمة ومستواها الأخلاقي ، ومن ذلك مسرحية "حب سطوري" المليئة بالإيحاءات الجنسية . وقد هال الحاضرين الوقاحة والسفالة أو بالتعبير التونسي " القباحة " التي اتسمت بها المسرحية ، والكلام الفاحش الذي تضمنته فصول المسرحية ، والتي كانت مقاطع من المجتمع السفلي . العجيب والغريب أن أصحاب هذه المشاريع السافلة يعتبرون ذلك الانحدار الاخلاقي ابداعا. فالإبداع كما يبدو في يصبح العربي المسلم حيوانا، وليس انسانا عظيما كما قال شكسبير" اعطني مسرحا أعطيك شعبا عظيما ".وربما سمع النظام بمقولة شكسبير لذلك دعا الكوميدي الفرنسي الشاذ جنسيا بيار بلماد، الذي ضاقت عليه مسارح أوديون، وروندبوانت ، ولانش، وتياتر دوسولولاس فيجاس، فغمرته أحضان النظام في تونس فتجشأ وتقيأ، الرومي ، شذوذا في وجوه الجماهير. ولم يكد الناس ينسون تلك الفقاعات النتنة ، حتى نظم النظام الحاكم في تونس عرضا للأزياء بالملابس الداخلية فقط ، مفتخرا بأنه أول عرض من هذا النوع تقدمه عربيات، وأضاف آخرون "مسلمات ". وشارك في العرض 10 فتيات جامعيات لم تتجاوز أعمارهن ال23 سنة ، ودعي للحفل مستثمرون وسفراء.

 


بطالة وفساد وأداء اقتصادي سيء:
منذ عدة سنوات والنظام الحاكم في تونس يحاول عبثا تغطية حالة القمع والانسداد السياسي، ومحاربة الفضيلة ، بأقنعة النمو الاقتصادي، ورعاية الشؤون الدينية كإقامة إذاعة للقرآن الكريم ، في حين لم ينفك عن مناهضة ومحاربة ما يدعو إليه القرآن ، وعلى كافة المستويات. بينما كذبة نمو الاقتصاد وهي واحدة من أهم ما تتذرع به السلطات في تونس، لم تعمر طويلا، فها هي التقارير تتحدث عن أن 16 في المائة فقط من حاملي الشهادات العليا يعملون في تونس .بينما هناك 70 ألف متخرج سنويا في البلاد ، علما بأن العاملين في القطاع الخاص من حملة الشهادات لا يتمتعون بأي ضمانات للبقاء في العمل .وقد زادت الأزمة الاقتصادية المالية العالمية الشعب التونسي رهقا، فقد كان النظام يقتات على حربه للإسلام في تونس، ودفع البلاد نحو مزيد من التغريب. وقد أظهرت آخر دراسة لمركز الدراسات والتشريع التابع للاتحاد العام التونسي للشغل أن عدد العمال المتضررين ( المطرودين من العمل ) بلغ 76،828 عاملا سنة 2009 م في حين بلغ عدد المؤسسات المتضررة 287 مؤسسة . وأن قطاعات النسيج والملابس هي الأكثر تضررا وهي 143 مؤسسة منها 51 مؤسسة أغلقت أبوابها . أما في 2010 م فإن الأرقام كارثية لذلك أحجم المركز عن نشر تقريره . كما تراجعت مداخيل السياحة لسنة 2010 م رغم ارتفاع عدد الليالي المقضيات لا سيما من قبل الروس والانجليز إلى 28 مليون ليلة . وتعمل الحكومة التونسية الآن على بحث جهة تمويل لاقتراض قرابة 4 مليارات دينار لتغطية العجز في سنة 2011 م . وأفادت وكالة تونس افريقيا للأنباء الرسمية أن الحكومة ستلجأ لاقتراض هذه القيمة من الأسواق العالمية في مطلع العام القادم لتقليص عجز الميزانية .في حين بلغ الدين في تونس نسبة 42،9 في المائة من الناتج الاجمالي . في الوقت الذي ارتفعت فيه حدة التذمر الشعبي من الأوضاع المعيشية وهوما تبرزه بوضوح أحداث الحوض المنجمي، والمواجهات قرب الحدود الليبية .لقد أثبتت الأحداث الأخيرة، على غرار انتفاضة الحوض المنجمي سوء الأوضاع المعيشية  التي يعاني منها المواطنون وتفشي البطالة وتفاقم التفاوت بين الجهات ، وذلك في الوقت الذي تنتشر فيه المحسوبية والرشوة وتسيطر فيه بعض العائلات والأطراف المتنفذة على مقدرات البلاد ظلما .وقد اعتبرت حركة النهضة في بينان لها أن " السبب الحقيقي لهذه الانفجارات الشعبية هو انعدام التوازن بين الجهات وتفشي الفقر والبطالة فيها ما يستدعي اتخاذ اجراءات تنموية سريعة تعالج الأسباب الحقيقية لهذه الأزمة وتطمئن المواطنين على حاضرهم ومستقبلهم".

 

 كما " تؤكد أنه لا استقرار حقيقيا ولا اطمئنان على حاضر البلاد ومستقبلها ما لم يتمّ الإقلاع عن التعاطي الأمني مع تحركات المواطنين ومطالبهم واحترام إرادتهم وتطلعاتهم للحرية والعدالة الاجتماعية " .