
بعد انقشاع غبار الاستفتاء وهدوء طبول الفرح يبدو أن تركيا مقبلة على مرحلة سياسية جديدة تشهد عدة تغييرات دستورية فاصلة في تاريخها ومستقبلها. فالاستفتاء الذي صوت عليه الناخبون الأتراك مؤخرا تضمن 26 بندا ستحد من سلطات القضاء والجيش حماة العلمانية اللذين يخوضان نزاعا مع حكومة حزب العدالة والتنمية التي يتزعمها رئيس الوزراء رجب طيب إردوغان.وطبقا للمراقبين السياسيين فإن إردوغان استطاع أن ينجح في واحدة من أهم المعارك السياسية التي خاضها والتي لم يخسر أيا منها حتى الآن منذ أن أصبح رئيسا لبلدية اسطنبول عام 1994 مرورا بدورتين انتخابيتين نيابيتين ودورتين بلديتين فقد أظهر الاستفتاء بوضوح أن شريحة كبيرة من الشعب التركي جددت ولائها لحزب العدالة والتنمية الحاكم كما أعطت نتيجة الاستفتاء الحزب الحاكم أملا كبيرا في الفوز بالانتخابات البرلمانية التي ستجري العام المقبل ودفعة كبيرة لوضع دستور جديد كامل للبلاد.لكننا يجب علينا أن لا ننسى بأن الشعب التركي أعطى إردوغان هذا التفويض الكبير ليس بسبب ميوله الإسلامية فقط وإنما بسبب إنجازاته الاقتصادية الكبرى على الأرض حيث باتت تركيا تحتل المرتبة السادسة عشرة على سلم ترتيب الاقتصاديات الأقوى في العالم وأيضا بسبب المكانة التي أصبحت تحتلها في العالم من خلال الأدوار التي قامت بها خلال الأعوام الماضية.يشار إلى أن حوالي ثمانية وخمسين في المائة من الأتراك صوتوا لصالح هذه التعديلات الدستورية فيما عارضها اثنان وأربعون في المائة وقد شملت ستا وعشرين مادة في الدستور تتعلق بالحريات العامة وسلطات الجيش إضافة إلى تعديلات في المواد المتعلقة بحقوق الطفل والمرأة وأخرى متعلقة بصلاحيات الجيش والقضاء العسكري كما وتسمح التغييرات الجديدة التي ستطرأ على الدستور التركي بمحاسبة ومحاكمة منفذي الانقلاب العسكري الذي وقع عام 1980.
ويرى المحللون السياسيون أن نتائج الاستفتاء الشعبي في تركيا يدل على تدني تأثير التيارات العلمانية والقومية المتطرفة في الشارع التركي وعلى نجاح الديموقراطية دون قيد أو شرط.فقد نجح حزب العدالة والتنمية بعد أن حكم البلاد على انفراد طيلة ثمانية أعوام رفع شعبيته وبهذه النتائج يمكن أن يذهب بثقة أكبر إلى الانتخابات البرلمانية في صيف العام المقبل كما يمكن لإردوغان أن يأخذ زخما أكبر للتطلع للترشح لرئاسة الجمهورية.أما حزب المعارضة الأبرز أي حزب الشعب الجمهوري وهو حزب اجتماعي يساري يدين بأفكار مصطفي كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية فقد انصهرت أصواته وخسر هذا الإستفتاء بسبب السياسية الفاشلة التي سلكها زعيم الحزب الجديد كمال كلتشلار أوغلو حيث اتخذ الحزب موقفا غير متماسك قبل الإستفتاء فقد أكد من جهة على أهمية بعض هذه التعديلات ورفض بعضها الآخر ولكنه في نهاية الأمر طالب بعض الناخبين بالتصويت بـ "لا" أما حزب الحركة القومية اليمني المتطرف فمن دون شك أكثر الخاسرين في هذا الإستفتاء ويمكن القول أن الخسارة التي منى بها الحزب باتت تهدد وجود الحزب نفسه ومدى قدرته على اجتياز حاجز الـ10 بالمائة في الإنتخابات البرلمانية المقبلة بعدما صوت نحو 30 بالمائة من أنصاره تأييدا للتعديلات الدستورية.أما فيما يتعلق بحزب السلام والديمقراطية الذي يتبنى مصالح الأكراد فقد عمل على عرقلة نجاح الإستفتاء من خلال مطالبة أنصاره وتحديدا أكراد تركيا الذين يقنطون في المناطق الجنوبية الشرقية التركية إلى ضرورة مقاطعة التصويت في الاستفتاء.واللافت في هذا الإستفتاء أن الجماعات الإسلامية للمرة الأولى وضعت كل قواها من أجل التصويت لصالح التعديلات الدستورية فمن دون شك يبقى لدعوة زعيم حركة النور الإسلامية الشيخ فتح الله غولان الأثر الكبير في ترجيح كفة "نعم" في هذا الإستفتاء.وكان الشيخ غولان الذي يقيم حاليا في الولايات المتحدة دعا الشعب التركي قبل أسابيع قليلة من موعد الاستفتاء للموافقة على التعديلات الدستورية موضحا أن هذه التعديلات وإن كانت محدودة إلا أن لها ما بعدها وأنها بمثابة نقطة تحرك نحو مزيد من الحريات والممارسة الديمقراطية.
دلالات الإستفتاء،،،
دلت نتائج الإستفتاء في تركيا على أن أكثر من نصف السكان لم يتجاوبوا مع دعوات المعارضة العلمانية والقومية فقد كشف عن تغيرات مهمة في الخريطة الانتخابية للعام المقبل إذ يشير بوضوح إلى أن حزب العدالة والتنمية الحاكم تمكن من رفع نسبة مؤيديه إلى 58 وهي نسبة كبيرة جدا حيث أن الاستطلاعات كانت تشير إلى أن 50 بالمائة من الشعب لم يكن على علم بمحتوى التعديلات لكنه صوت فقط أيدلوجية للحزب الذي يثق به وبالتالي واضح أن الحزب الحاكم تمكن نيل ثقة الأغلبية الشعبية بكل اقتدار.من الخلاصات الأخرى التي كرستها نتائج الإستفتاء كون الأتراك رغم ما يحملونه في أنفسهم من قومية فائقة إلا أنهم تعاملوا مع القضايا السياسية على نحو مغاير لعقلية المعارضة العلمانية انطلاقا من كل ذلك يسعنا أن نعتبر نتائج الإستفتاء انتصارا للديموقراطية دون قيد أو شرط.أما بالنسبة لغلاة المتبنين لأفكار مؤسس الجمهورية كمال أتاتورك داخل حزب الشعب الجمهوري فقد جاءت هذه النتائج الانتخابية بمثابة الطامة الكبرى نظرا لأن هذا الحزب لم يتقدم في هذا الإستفتاء سوى بنسبة ضئيلة.
ماذا بعد الإستفتاء؟
أدى انتصار حكومة حزب العدالة والتنمية في استفتاء التعديلات الدستورية إلى تعزيز فرص حزب العدالة والتنمية في الفوز بفترة ثالثة في السلطة وإلى دعم الأسواق ودفع إقرار التعديلات جماعات لحقوق الإنسان إلى تقديم سيل من الطلبات لمحاكمة قادة الانقلاب العسكري الذي وقع عام 1980 والذين جردوا من الحصانة بموجب أحد التعديلات في حزمة الإصلاحات الدستورية كما شكلت نتيجة الإستفتاء التي فاقت كل توقعات الاستطلاعات انتصارا لتركيا المتطلعة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي فضلا عن تجديد التفويض الشعبي لسلطة رئيس الوزراء رجب طيب إردوغان شخصيا وما سيتركه ذلك من أثر إيجابي على استمرار التجربة التركية في الداخل والخارج.
المتتبع للأحداث في تركيا يشعر بأن المعادلة السياسية الحالية في سبيلها إلى الاستمرار لسنوات ولا يظهر في الأفق ما يشير إلى أن المعارضة ستكون قادرة على تغيير هذه المعادلة.فيما يبدو أن إردوغان قد تعلم من دروس الماضي حيث خسر الإسلاميون المواجهات مع الجيش التركي لذلك حرص منذ توليه السلطة في 11-3-2003 على تأكيد التزامه وحزبه بالعلمانية وتقديم حزبه على إنه حزب إصلاحي معتدل يسعى للمصالحة بين الإسلام والعلمانية.إردوغان الذي كبح طموحاته الرئاسية في عام 2007 وأرسل الرئيس التركي الحالي عبد الله غول(رفيق دربه) مكانه أثبت بأنه يعرف جيدا المرحلة التي يجب أن يتوقف عندها.. بكل الأحوال؛؛ نحن أمام نتيجتين على المدى القصير للسياسية الذكية التي سلكها إردوغان خلال الأعوام الماضية أولا:حزب العدالة والتنمية سيدخل البرلمان للمرة الثالثة بأغلبية مطلقة في الانتخابات البرلمانية العام المقبل ،ثانيا: سياسة الحزب الاقتصادية سوف تستمر على نفس الوتيرة.لهذا هو بحاجة في الأشهر المقبلة إلى التصرف على هذا المنوال لأنه سيكون في وضع الذي يخضع "لامتحان ديمقراطي" أمام الجميع..