الهروب الأمريكي من العراق .. ثلاثة عصافير بحجر واحد !
28 رمضان 1431
جمال عرفة

برغم أن النية الأمريكية الأصلية للهروب من العراق وسحب ألاف القوات كانت منعقدة منذ مجئ الرئيس الجديد اوباما للبيت الأبيض بهدف تقليص خسائر هذه القوات التي أصبح العراق بمثابة مصيدة لها تجتذب المقاومة العراقية وأنصار تنظيم القاعدة، فقد جاء إعلان نوايا هذا الهروب السريع مؤخرا والبدء في سحب هذه القوات للكويت ومنها لبلادها قبل أسابيع من موعدها في 31 أغسطس الجاري، وبرغم تأكيد رئيس أركان الجيش العراقي بابكر زيباري ان القوات العراقية لن تكون قادرة على تولي الملف الأمني قبل 2020، ليثير تساؤلات حول سر الإصرار علي هذا الهروب المبكر !.

 

البعض من المحليين العسكريين يرجع الأمر لتفاقم حجم الخسائر الأمريكية والتي فاقت الـ 4500 جندي و33 ألف مصاب (بخلاف توقعات غير رسمية تتحدث عن 50 ألف قتيل)، ومن الواضح أن الأمر يرجع أيضا لتلبية حاجات القوات الأمريكية المهزومة في أفغانستان وفق عقيدة اوباما العسكرية الجديدة التي تعتقد أن تحقيق نصر في أفغانستان علي طالبان والقاعدة أهم من العراق، أما الاحتمال الثالث فيربط بين تعجيل سحب هذه القوات من العراق وبين عدوان أمريكي محتمل قادم علي إيران والرغبة في إخراج هذه القوات الأمريكية من تحت المقصلة الإيرانية القريبة منها في العراق !.

 

وفي كل الأحوال يبدو أن التخبط الأمريكي سوف تكون له تداعيات خطيرة سواء علي مستقبل العراق أو علي إشعال مناطق جديدة من الصراع في العالم، وربما يكون المتضرر الوحيد منها في نهاية المطاف هو النفوذ الأمريكي وتزايد التآكل المستمر في نفوذ الإمبراطورية الأمريكية وأفول نجمها .
إذ أن ترك العراق علي حالته الحالية من الفوضى، لحد العجز عن تشكيل حكومة بعد أربعة أشهر من الانتخابات العامة، قد يزيد من حالات القتال الداخلية ويهدد بتقسيم البلاد بين منطقة كردية وأخري شيعية وثالثة سنية، كما أن المزيد من التورط الأمريكي في صحراء أفغانستان بدعاوي السعي لتحقيق إنجازات هناك ليس سوي حلما سوف يتحطم علي صخرة الواقع الأفغاني الذي قهر من قبل الإمبراطوريتين البريطانية والسوفيتية .

 

أما لو كان الهروب المبكر من العراق يستهدف الإعداد لمغامرة أمريكية عسكرية جديدة ضد إيران، فستكون هذه هي الطامة الكبرى لأن الحرب هذه المرة – حتي لو اقتصرت علي القصف الجوي للمنشآت النووية الإيرانية – لن تكون نزهة، وإنما سيشتعل بسببها كل المنطقة العربية من الخليج إلي لبنان وسوريا وفلسطين .
وستكون كلفة ضرب منشآت إيران النووية هي فوضي وتدمير في لبنان وسوريا وإسرائيل وفلسطين بسبب التصعيد المتوقع من حزب الله وحماس أيضا بخلاف المصادمات المتوقعة في العراق بين ما تبقي من القوات الأمريكية وأنصار طهران من الأحزاب العراقية الشيعية.
هذا السيناريو الأخير – أي الترتيب لضرب إيران – يبدو هو الأرجح غالبا برغم أن الهروب الأمريكي من العراق سيحقق – ضمنا – ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد هي : الرغبة الأمريكية في الهروب من جحيم العراق وخسائره، ونقل قوات لأفغانستان، وتوفير أجواء لضرب إيران دون تضرر جموع القوات الأمريكية في العراق .

 

ويؤيد هذا السيناريو وجود تحركات أمريكية وإسرائيلية أخري أبرزها الضغوط المكثفة من جانب إدارة أوباما علي السلطة الفلسطينية والعرب للقبول باستئناف مفاوضات التسوية المباشرة علي عجل وهم صائمون في رمضان وبدون أي ضمانات، لتوفير أجواء هادئة خادعة فلسطينيا وعربيا تسهم – كما حدث قبل ضرب العراق – في حشد الدعم العربي وتوفير الأجواء والأراضي للتحرك الأمريكي ضد إيران بدعاوي وقاية العرب من الخطر الشيعي ودعم إيران للإرهاب في البلاد العربية !.

 

94 قاعدة عسكرية بدل 357 !
والحقيقة أنه برغم الانسحاب الأمريكي المتعجل الأخير في جوف الليل والذي سوف يترتب عليه تقليص القوات الأمريكية من حوالي 70 ألفا إلي 50 ألفا (كانوا 150 الفا قبل ذلك)، بهدف خفض أعمال المقاومة الموجهة ضد هذه القوات، فلا يعني هذا انتهاء الاحتلال بقدر ما يعني (إعادة نشر القوات) بحيث يجري جمعها في 94 قاعدة عسكرية فقط في العراق بدلا من 357 ومن ثم تشديد الحراسة حولها وإبعادها عن مناطق الاشتباكات مع المقاومة .
بعبارة أخري يبدو انسحاب القوات الأميركية من العراق ذي دلالة رمزية وغير حقيقية ويستهدف بشكل رئيسي تخلص اوباما من ارث بوش الثقيل، ولكن يستهدف ايضا إمساك العصا من المنتصف، بمعني إبعاد القوات الأمريكية عن مناطق الاشتباكات لتقليل خسائرها، وفي الوقت نفسه الإبقاء علي الوجود العسكري في العراق ممثلا في ستة ألوية أميركية في 94 قاعدة في العراق .

 

فحسب بيان حقائق صدر عن البيت الأبيض، ونشره (تقرير واشنطن) كان عدد القوات الأمريكية عندما تقلد أوباما السلطة في بداية العام الماضي 144 ألف جندي، ثم أصبح 112 ألف في شهر يناير هذا العام قبل أن يقل العدد ليصل إلى 88 ألف جندي في شهر مايو الماضي، ومن المنظر أن تنخفض إلى 50 ألف جندي بنهاية هذا الشهر (أغسطس) مقابل زيادة القوات الأمريكية في أفغانستان إلي 94 ألفا .
أيضا بلغ عدد القواعد العسكرية الأمريكية داخل العراق في صيف العام الماضي 357 قاعدة، تقلصت إلي 112 قاعدة الآن، ومن المنتظر أن ينخفض العدد إلى 94 قاعدة بنهاية هذا الشهر.
وأشار بيان البيت الأبيض إلى وصول عدد أفراد جيش العراق إلى 665 ألف جندي، وهي القوة التي تقوم الآن بالمهام الرئيسية لحفظ المن والنظام الداخلي منذ شهر يونيه العام الماضي وان الولايات المتحدة ستحتفظ بالعديد من المعدات بعد نهاية هذا الشهر، يقدر عددها بـ 1.2 مليون قطعة من المعدات، وذلك بعد أن وصل عددها إلى 3.4 مليون قطعة في يناير 2009.

 

مستقبل العراق بعد الانسحاب
ولا شك أن هذا الانسحاب الأمريكي سوف يدفع بالعراق دفعا – في ظل التصارع بين القوي الطائفية والحزبية علي السلطة وتصاعد لهجة العداء – الي حالة من التنافس الشرس بين القوي المختلفة لفرض سيطرتها خصوصا علي العاصمة بغداد التي تعتبر محور الصراع أو الخط الفاصل بين المناطق الشيعية في الجنوب والسنية في الشمال، في حين تبقي القوات الأمريكي تشاهد هذه التصفيات النهائية بين "الذئاب" التي خلفها الاحتلال،في دوري الدماء العراقية .
بعبارة أخري هناك مخاوف حقيقية من الفوضى والتصفيات الطائفية بسبب الفراغ الذي سيتركه انسحاب القوات الأمريكية المتعجل، وهناك تقارير عن هروب لبعض أعوان المحتل من العراق الي عواصم أوروبية ونقل أموال تحسبا لهذه الفوضي المقبلة .

 

يكفي أن شهر يوليه الماضي كان هو الأكثر دموية في العراق (500 قتيل) برغم ما يقوله الأمريكان عن هدوء وعن ضرب للمقاومة والقاعدة .
وبرغم أن قوات الاحتلال تنسحب وهي تهلل علي لسان السفير الأمريكي "هيل" وعدد من الجنرالات الأميركيين للانتصارات التي حققتها، يعرف العراقيون الحقيقة المرة ويشكون من أن حياتهم في ظل سبع سنوات احتلال انحدرت للأسوأ وأن أكاذيب الاحتلال عن "الحرب التي تجلب الحرية" ووعود بوش وبلير عن العراق "واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط" هي ما خلفه الاحتلال بخلاف الفقر والمرض وملايين الضحايا والأرامل والأيتام ! .
بل أن هناك في الغرب – الكاتب هنري بورتر في صحيفة "الأوبزيرفر" – من أعتبر أن من أخطاء غزو العراق أنها "استحوذت على كل الاهتمام والمال والجهد من جانب التحالف الدولي، لمدة خمس سنوات على الأقل، مما جعل أميركا وبريطانيا لا تهتمان كثيرا بالوضع في أفغانستان، المفجر الحقيقي لأحداث 11 سبتمبر، مما مكن طالبان والقاعدة من إعادة تجميع قواتهما وإعادة تجهيزها وتجميع الجهاديين من جميع أنحاء الشرق الأوسط".
وأشار إلى أنه "ليس من قبيل المبالغة أن نقول إنه بعد تسع سنوات من قصف مخيمات طالبان والقاعدة، فنحن نفقد جنودنا في أفغانستان بسبب الحرب في العراق" !.

 

ويبدو أن الفشل في العراق جعل القادة العسكريين الأمريكيين يخفضون سقف "أحلام" تحقيق انتصار في أفغانستان ويتلاعبون بمواعيد الانسحاب الكامل من العراق وأفغانستان، حتي أن الجنرال ديفيد بتريوس القائد العسكري الأميركي في أفغانستان أضطر للقول بأنه (لا توجد مواعيد محددة أو مهل نهائية صارمة (للانسحاب) .. بالنسبة لنا الأمر الأكثر أهمية هو تحقيق الظروف الضرورية للمرحلة الانتقالية للأقاليم في المستقبل"، وذلك بعدما تجاوز عدد القتلى في صفوف القوات الأجنبية 2000 معظمهم أميركيون وبريطانيون.

 

الجائزة الكبرى .. إيران !
وبرغم هذا الفشل في أفغانستان والعراق، فهناك تحركات هستيرية في الكونجرس خصوصا من قبل اللوبي الصهيوني للتحريض ضد إيران وتشجيع ضربها أو قصف مفاعلاتها في اقرب فرصة باعتبارها الجائزة الكبري للقوات الأمريكية، وهو ما عجل بالانسحاب الأمريكي من العراق وتجميع القوات في قواعد أقل، وتسريع خطط ضرب مناطق لطالبان في الجنوب والشرق قبل التركيز علي ملف إيران .
وضمن عمليات إعداد مسرح العمليات ضد إيران جاءت منحة أوباما المالية للصناعات الحربية الإسرائيلية (205 مليون دولار) لإتمام بناء القبة الحديدية المزعوم قدرتها علي حماية اسرائيل من صواريخ ايران وحزب الله، وكذلك إعلان أمريكا عن بيع الكويت صفقة صواريخ من طراز باتريوت تصل قيمتها الى ملياري دولار، للتصدي لأي صواريخ إيرانية ممكن ان تقصف هذه القوات الأمريكية هناك .

 

بخلاف ما ذكرناه من تهدئة إجبارية علي الساحة الفلسطينية وإطلاق عملية تخدير كبري تستمر قرابة عام كامل هي فترة المفاوضات المباشرة التي ستبدأ يوم 2 سبتمبر المقبل، لضمان حشد اسرائيل والعرب معا ضد ايران وتنحية الصراع العربي الصهيوني جانبا مؤقتا بحجة أن عملية السلام دائرة !.
الانسحاب الأمريكي أو (الهروب) من العراق مبكرا استهدف بالتالي ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد هي : تقليص أعداد القتلي الأمريكان ومشاهد صناديق الموتي التي تتدفق علي واشنطن، ومحاولة إنقاذ ماء الوجه في أفغانستان بزيادة القوات وتحقيق ضربات اشد عنفا لطالبان قبل طرح فكرة التفاوض المباشر مع "المعتدلين" منهم لتوفير هروب ثان أمن من هناك، وأخيرا الاستعداد لتوجيه ضربة عسكرية لإيران تجعل أهم ورقة في يد طهران – وهي ضرب القوات الأمريكية في العراق – ضعيفة !.