
الكثير من علامات الاستفهام بدأت تطرأ حول مستقبل العلاقات التركية “الإسرائيلية” التي أخذت في التوتر الجدي منذ الحرب “الإسرائيلية” على غزة العام الماضي فيما ازدادت الخطوات التراجعية بين أنقرة وتل أبيب مؤخرا في أعقاب الانتقادات التي وجهها رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان لإسرائيل حول انتهاك إسرائيل لقرارات مجلس الأمن الدولي.
وتبدو العلاقات التركية “الإسرائيلية” اليوم وكأنها دخلت في منعطف خطير ومرحلة حرجة من التوتر بعد استدعاء السفير التركي في تل أبيب ومحاولة إهانته باجلاسه على كرسي أقل ارتفاعا من غيره وعدم وضع العلم التركي إلى جانب العلم الإسرائيلي على الطاولة وهي خطوة قابلتها تركيا بالمثل وإن لم تكن بنفس الطريقة فاستدعت وزارة الخارجية التركية السفير الإسرائيلي في أنقرة لتوبيخه دون أضواء إعلامية.
الأزمة بلغت ذروتها عقب انتقاد الكيان الإسرائيلي بث التلفزيون التركي الرسمي مسلسلا تلفزيونيا يصور اليهود على أنهم خاطفو أطفال ومرتكبو جرائم حرب، ويصور عملاء الموساد الإسرائيلي بصورة وحشية.
وبرأي الكثير ما فجر الأزمة بين البلدين هو أكثر من مسلسل تلفزيوني فإسرائيل غاضبة لأن أنقرة حرمتها الكثير من الأوراق والملفات الإقليمية التي كانت تلوح بها وتحاول استخدامها للتهديد أو الحصول على تنازلات سياسية وأمنية سواء في علاقاتها مع الأتراك أو في مسائل تهم تركيا وتطال حساباتها ومصالحها الإقليمية.
ورغم كل ذلك يرى المراقبون أن التوتر في العلاقات التركية-”الإسرائيلية” لن يصل حد القطيعة، فلا أنقرة ولا تل أبيب على استعداد للمغامرة بخصومة بينهما، وأن الأمر يقتصر على تنافس بين الجانبين في إقناع واشنطن بصوابية طرح كل طرف،وبعد استسلام واعتذار إسرائيل لتركيا، يتساءل الكثيرون فيما إذا كانت هذه الأزمة قد إنتهت أم أنها ستذهب نحو التصعيد الدبلوماسي؟ يرى الكثير من الخبراء أن التوتر يبقى يخيم على علاقة الجانبين، ولا سيما أن نقطة الخلاف المركزية المرتبطة بالملف الفلسطيني والسوري وغيرها من الملفات الإقليمية والدولية ما زالت عالقة.
وبحسب المحللين السياسيين الأزمة الأخيرة التي واجهت العلاقات التركية “الإسرائيلية” على خلفية إهانة السفير التركي في تل أبيب طرحت تساؤلات عديدة حول مستقبل العلاقات الثنائية بين البلدين في ضوء معطيات متعددة في مقدمتها ردود الأفعال الرسمية والشعبية التركية إزاء السياسة “الإسرائيلية” منذ الحرب على غزة في ديسمبر 2008 وحتى الآن وما كان جديدا بالنسبة للإسرائيليين هو أن هذا النوع من ردود الأفعال التركية لم يعتادوا عليه طوال العقود الماضية وعلى ما يبدو أن الفترة القادمة سوف لن تحمل "للإسرائيليين" رياحا طيبة من أنقرة.
نتائج زيارة باراك الأخيرة لأنقرة،،،
الزيارة التي قام بها وزير الدفاع "الإسرائيلي" ايهود باراك إلى أنقرة كانت ثنائية استراتيجية وعسكرية الأبعاد حيث شهدت مباحثات شاقة بين البلدين على كافة الأصعدة بتأكيد من المسئولين الأتراك والإسرائيليين على حد سواء.
البعد الأول للزيارة كان من أجل صفقة الطائرات بدون طيار وهي من طراز "هيرون"، ويبدو أن باراك قد نجح في إقناع تركيا بتسليمهم الطائرات خلال هذا العام، لكن المباحثات ما زالت قيد البحث حاليا بين التقنيين من الجانبين وهو ما يعزز العلاقات العسكرية والاستراتيجية بين البلدين على المدى البعيد.
أما البعد الثاني المهم للزيارة فكان بحث حالة الفتور التي شابت العلاقات الثنائية بين البلدين والتوتر غير المسبوق في هذه العلاقات وعلى الرغم من ذلك يرى المراقبون أن زيارة باراك لم تحقق الأهداف المرجوة منها وهي رأب الصدع في العلاقات وأن التوتر ما زال قائما بين الجانبين مشيرين إلى عدم استقبال باراك من قبل كل من غول وإردوغان.
زيارة باراك لتركيا كانت مجرد بداية لتحرك إسرائيلي أنشط وأوسع نطاقا تجاه تركيا خلال الفترة المقبلة للتأكد من عدم حدوث أي تراجع في العلاقات بين الجانبين كما تعبر عن حالة القلق وعدم الارتياح التي تعتري إسرائيل في الآونة الأخيرة وتتمثل حالة القلق تلك في الخطوات التركية الأخيرة سواء فيما يتعلق بعملية السلام في الشرق الأوسط ومسألة سحب بعض المناقصات العسكرية من الشركات “الإسرائيلية” مما يعني تراجع في مؤشر العلاقات بين أنقرة وتل أبيب.
ويشير المراقبون السياسيون إلى أن الهدف الرئيسي لزيارة باراك لتركيا هو محاولة الحصول على إجابة من القادة الأتراك لسؤال حول ما إذا كانت تركيا قد بدأت تغير من استراتيجيتها فيما يتعلق بالعلاقات الثنائية ما بين البلدين.وجاء ذلك الإحساس بعض التقارب التركي مع الدول العربية خصوصا مع سوريا وإيران ومع معظم دول الشرق الأوسط بعد فترة طويلة أهملت فيها تركيا علاقتها مع هذه الدول.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: لماذا يحرص حزب العدالة - وهو حزب "ذو جذور إسلامية" - على عدم الدخول في صراع مع إسرائيل بل وإبقاء العلاقة معها جيدة؟..
الجواب على ذلك يتمثل ببعدين داخلي وخارجي أما البعد الداخلي فيرتبط بشروط حركة الحزب وعلاقته مع المؤسسة العسكرية ذات النفوذ القوي في البلاد والتي تتمتع بعلاقات خلفية متينة مع "إسرائيل"، نجم عنها في السنوات الأخيرة الاتفاق العسكري بين الطرفين والذي اعتبر بمثابة حلف إستراتيجي ثلاثي (تركيا-إسرائيل- الولايات المتحدة)، فطبيعة العلاقة مع إسرائيل تحكم المعادلة السياسية التركية وتمتين العلاقة بالجوار العربي سيؤدي إلى تحريض إسرائيلي للعسكر ضد الحزب وعودة الهواجس بمصادرة كل مكتسباته ومكتسبات الدولة بذريعة "معاداة الأتاتوركية".
يضاف إلى ما سبق أن إسرائيل لها مصالح اقتصادية كبرى في تركيا وهناك شبكة من الاقتصاديين والسياسيين مرتبطة بها ومن أبرز النشاطات الاقتصادية الشراكة التركية- “الإسرائيلية” في مشروع "الغاب" الزراعي الكبير والذي تعتمد فيه تركيا على الخبرة الزراعية والمساعدة “الإسرائيلية” كما سارعت إسرائيل إلى دعم تركيا مباشرة بعد الزلزال الذي ضربها عام 1999 وقامت ببناء قرية كاملة لإيواء المشردين من أثار الزلزال ومن العوامل الضاغطة في هذا المجال النشاط الاقتصادي للوبي اليهودي في تركيا والذي ازدهر بشكل كبير في السنوات الأخيرة وعلى سبيل المثال فإن اللوبي اليهودي يمتلك عدة شبكات إعلامية كبيرة من بينها (show T.V) وقد أسس عدد من الاقتصاديين ورجال الأعمال اليهود الأتراك أكبر الشركات الاقتصادية التركية عام 1989(مركز العام ال500) والذي أسس بمناسبة مرور خمسمائة عام على هجرة اليهود من أسبانيا إلى تركيا.
أما البعد الخارجي فيرتبط بالعلاقات التركية الأوروبية والأميركية، فمن المعروف أن حكومة العدالة والتنمية تنظر إلى العلاقة مع أوروبا وأميركا على أنها علاقة إستراتيجية بهدف الاستقواء بالخارج على الداخل، واستثمار هذه العلاقة ضد العسكر في الداخل، و"عقدة المنشار" تكمن أن الرؤية الأوروبية- الأميركية لحل مشكلة الشرق الأوسط تتمثل بالمفاوضات والعملية السلمية، ورفض الحق المشروع للشعب الفلسطيني بالمقاومة المسلحة.
جفاء لا قطعية،،،
شهدت العلاقات التركية “الإسرائيلية” منذ وصول حكومة حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب إردوغان إلى الحكم في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني 2002 تراجعا كبيرا في المجالات السياسية والعسكرية والأمنية.
وعلى المستوى السياسي، وجه إردوغان ووزير خارجيته أحمد داود أوغلو انتقادات قوية إلى إسرائيل وصلت إلى حد وصف الجرائم التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني "بسياسة إرهاب دولة".
ومهما يكن، فإن مثل هذا الأمر يعكس توجها جديدا لدى أنقرة سواء أكان في إطار البحث عن دور إقليمي ودولي جديد أو في إطار التضامن مع الشعب الفلسطيني وفي الحالتين فإن حكومة إردوغان لا يمكن أن تتخلى عن مرجعيتها الإسلامية المعتدلة التي لا تسمح بمجاملة سياسة نتنياهو واعتداءاته المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني خاصة وإن هذه الممارسات “الإسرائيلية” التعسفية فجرت غضبا شعبيا في تركيا كان ينبغي على إردوغان أو غيره من المسئولين الأتراك أن يأخذه بعين الاعتبار في سياستهم.
وجاء الفتور الذي يشوب العلاقات التركية “الإسرائيلية” في سياق انفتاح تركي تجاه العالم العربي والإسلامي وتقارب مع التوجهات العربية وبالذات منذ وصول الإسلاميين بزعامة إردوغان إلى رئاسة الحكومة التركية.
وكان من أبرز هذه المؤشرات على الانفتاح على العالم العربي والإسلامي تخفيف التوتر في العلاقات التركية-السورية وهو الأمر الذي جسدته زيارة الرئيس السوري بشار الأسد لتركيا في السادس من يناير/كانون الأول 2004 والتي ساهمت في فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين بعد سنوات من التوتر.هذه التطورات في العلاقات السورية-التركية أدت إلى احتواء جبهة توتر إقليمي كانت تسعى إسرائيل إلى تصعيدها وتفجيرها بهدف تعميق التأزم في العلاقات العربية-التركية.
وقد واكب ذلك اتخاذ تركيا مواقف جيدة من القضية العراقية فقد رفضت عبر برلمانها في الأول من مارس /آذار 2003 المشاركة في الغزو الأمريكي ضد العراق ورفضت أيضا منح تسهيلات عسكرية ولوجستية للقوات الأمريكية عبر الأراضي والقواعد العسكرية التركية مثل قاعدة انجيرليك في عمليات غزو الأراضي العراقية، كذلك اتخذت تركيا موقفا مهما متفقا مع المواقف العربية من رفض تقسيم أراضي العراق وضرورة الحفاظ على وحدة أراضيه وسيادته.
وأخيرا يمكن القول.. يبدو أنه من الصعب أن تعود العلاقات بين أنقرة وتل أبيب إلى ما كانت عليه في التسعينيات من القرن الماضي إذ أن استراتيجية "إسرائيل" في قطاع غزة حجر عثرة في العلاقات التركية-”الإسرائيلية” خصوصا مع إصرار أنقرة على وضع نهاية للحصار "الإسرائيلي" لقطاع غزة واستئناف محادثات السلام بين "إسرائيل" والفلسطينيين.