مرت الجولة الإفريقية التي قام بها وزير خارجية العدو الصهيوني،مروراً عابراً،أمام صانعي القرار العربي،ولا سيما من بلدان القارة المنكوبة نفسها.فلم يشغلهم أن أشد حكومة من الغلاة الصهاينة – وكلهم غلاة- تغزو حديقتهم الخلفية،وتهدد أمنهم الاستراتيجي في عمق أعماقه!!
بل تجد أكثرهم مشغولين بصغائر تتصل بأمن كراسيهم المفروضة على شعوبهم،ولاهين بمسائل ثانوية وهامشية،وكأن أمن البلد بل المنطقة كلها لا يعنيهم في شيء.
وليس عبثاً أن جولة الإرهابي العنصري ليبرمان-صاحب الدعوة القديمة المتغطرسة لتدمير السد العالي- شملت ثلاثاً من بلدان منابع نهر النيل،هي:إثيوبيا وكينيا وأوغندا،التي يرد منها86%من مياه هذا النهر،الذي يُعد شريان الحياة لكل من مصر والسودان.بل إن النيل قضية وجودية لهذين البلدين العربيين،اللذين يستأثران حقيقة بالقسط الأوفى من ماء النهر،بناء على اتفاقات تاريخية.
فوفقاً لاتفاقَيْ 1929و1959م،تحصل مصر على 55،5 مليار متر مكعب،ويأخذ السودان 18،5مليار متر مكعب،ويوزع الباقي(10مليارات على الدول الإفريقية المتشاطئة على النهر).بل إن تلك الاتفاقات تمنح القاهرة حق الاعتراض على أي مشروع مائي على النيل،ترى أنه قد يقلص نصيبها من مياهه.
لكن ذلك كان في فترتين تاريخيتين مختلفتين عن الوقت الحاضر،ففي نهاية العقد الثاني من القرن العشرين الميلادي،كانت مصر على أبواب انتزاع حريتها نسبياً من الاحتلال البريطاني،وتكرس مكانتها التاريخية والجغرافية في موقع القيادة للقارة السمراء.
أما في ختام العقد الخامس من القرن ذاته،فكانت مصر تتبوأ مقعد القيادة الإفريقية بلا منازع،وتؤازر حركات تحررها الوطني،في مواجهة بقايا الاستعمار الغربي.وهذه الشهادة أمانة لا يجوز طمسها بسبب التحفظات الكثيرة على كثير من سياسات النظام الناصري حينئذ.
وأديس أبابا بموروثها الصليبي القديم المتجدد،لا تخفي أطماعها وإصرارها على إعادة تقسيم مياه النيل،وحرصها على تشييد سد ضخم على النيل الأزرق،لحرمان مصر من نحو نصف حصتها الحالية،مع العلم بأن أقل التقديرات تشاؤماً تشير إلى أن حاجة مصر إلى الماء سوف تبلغ ضعفي ما تأخذه من ماء النيل اليوم!!
وكان الرئيس الإيراني المتطرف محمود أحمدي نجاد،قد سبق جولة المجرم ليبرمان،بجولة إفريقية لا تقل مكراً وخبثاً،وسعياً إلى تطويق المد الإسلامي الواسع في القارة بحزام رافضي، وقد آتى الغزو الصفوي بعض ثماره المريرة،فأصبح للرفض الصفوي موطئ قدم في بلدان مسلمة لم يكن للرفض فيها أي وجود من قبل،مثلما حصل في نيجيريا وكينيا وأوغندا.....
وهنالك بات على المسلمين مواجهة عدوين في آن واحد،هما التنصير والتشييع!!
وعلى الصعيد السياسي،أصبحوا في مواجهة الغزو الصهيوني والتغلغل الصفوي الإيراني معاً.
ومن الناحية النظرية-بل الدعائية إن شئنا مزيداً من الدقة-،تبدو طهران وتل أبيب تتنافسان على النفوذ في القارة الإفريقية،غير أن المتابعة الموضوعية المنصفة،تؤكد أن بينهما تحالفاً فعلياً معادياً للإسلام وأهله،بدءاً من العراق وأفغانستان ولبنان،ومروراً بنهب القارة السمراء وتغيير هويتها الدينية،لفرض هويات مناوئة،تكفل الهيمنة السهلة للأعداء على مستقبلها.
لكن الغفلة العربية المحزنة،تتضح بأسوأ دركاتها،من ملاحظة تسلل الرفض إلى عقر دار هذه البلدان،المهووسة بعضها بمطاردة الحجاب واللحية ومظاهر الالتزام الشرعي حتى في نطاق التعبد الفردي المحض!!
وصدق شاعرنا العربي القائل في مثل هذه الحال المؤسفة:
إذا خانكَ الأدنى الذي أنت حزبُهُ فوا عجبا أَنْ سالمَتْكَ الأباعِدُ
إن على قيادات هذه البلدان أن تصحو من غفلتها العجيبة،وأن تنهض من كبوتها المذهلة،لكي تدرك حجم ومدى الأضرار الاستراتيجية القاتلة التي تتربص بها حاضراً ومستقبلاً،على أيدي أعداء حاقدين،سواء أكان هؤلاء الأعداء يتنافسون على إيذائنا أم كانوا يتقاسمون السيطرة على بلداننا،على الأقل بالمنظار السياسي.وإلا فالمصير مخيف،ولن يرحمهم أحد من شعوبهم،ولن يترك لهم الغزاة موضعاً،حتى لو كانوا يُبدون لهم الود،ويلبسون لهم ثياب الحملان.