لم تستطع صواريخ سكود العراقية في حرب الخليج الأولى أواخر الثمانينات من القرن الماضي أن تقسم طهران كما قسمتها الاضطرابات اليوم بين موالين لنظام الفقيه الذي يمثله علي خامنئي وآخرين مؤيدين لزعيم المعارضة الإيرانية مير موسوي الذي يتحدى أعلى سلطة في الجمهورية الإيرانية.
حالة ضبابية يصعب التكهن بنهايتها لدى المراقبين، لكن الجميع يكاد يجمع على أن إيران ما بعد الانتخابات وهذه الأزمة لن تكون كما كانت قبلها، حيث تبعثرت الأوراق التي كان يمسك بها المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي ضمن منظومة سياسية تقود سلطة عسكرية متمثلة في قوات الحرس الثوري والقوات المسلحة الإيرانية.
إيران اليوم تنزف دماً ثمناً للتغيير الذي لا ينحصر في مجرد خلاف سياسي يتعلق برابح وخاسر في انتخابات رئاسية ضمن أطر النظام الإمامي المعروف باسم ولاية الفقيه وإنما بمنظومة القيم العقدية والسلوكية والأخلاقية التي جاءت مع ثورة الخميني قبل ثلاثين عاماً، والتي غيرت وجه إيران وأخذتها باتجاه مذهبي واضح، لم تزل تنفك منه بشكل متسارع في الأعوام القليلة الماضية على الأصعدة الاجتماعية والثقافية والفكرية، ثم تجلى في هذه الثورة الأخيرة التي لا تعلن نفسها مخاصمة للنظام السياسي الإيراني وإنما تتمرد عليه بأشكال مختلفة تتنوع بتنوع المشاركين في تظاهرات طهران وغيرها من المدن الإيرانية الثائرة.
عشرات القتلى والجرحى يسقطون بالتأكيد ليس لتتبدل الوجوه فقط في سدة الحكم الإيراني من دون انعكاس على الواقع المعيشي لجماهير الشعب الإيراني؛ فلقد تعددت الوجوه في الرئاسة الإيرانية وبعضها أشد "اعتدالاً" من موسوي، كالرئيس السابق محمد خاتمي، ولم يحدث شيء يذكر ما ظلت السلطة الحقيقية في يد المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي.
ولقد تكرر التزوير بحق من هو أشد مراساً ونفوذاً من موسوي ذاته، وهو هاشمي رفسنجاني قبل أربعة أعوام، من دون أن تتخضب شوارع ولي عصر وانقلاب بالدم، ومن غير انفجارات في مراقد مقدسة.
إذن لا يبقى إلا تصور صراع أجنحة قوي بين الملالي الإيرانيين يغذيه تململ شعبي كبير أفضى في النهاية إلى تنسم الجماهير سبيل الفكاك من نظام أطبق بتلابيبه على رقاب الضائقين ذرعاً بنظم السياسة والاقتصاد والمذهبية التي تحكم البلاد الفارسية، وتجعل من العسير على الشعب الإيراني تقبل المزيد من الانصياع لقوانين وأحكام وطرائق حكم لم تعد ذات شرعية شعبية ولا تحظى بالمصداقية في ظل فساد طاغٍ طال أدعياء الزهد والتقشف.
"الموت للديكتاتور"، صدحوا بها بقوة ليس في وجه عملية تزوير طارئة ربما اعتاد الشعب الإيراني على أمثالها خلال العقود الثلاثة الماضية، وإنما على نظام كامل لا يطمع الإيرانيون على تغييره كلية، وإنما تغيير وجهه بشكل جذري يتيح للشعب التنفس والخروج من دائرة البطالة والفقر والإنفاق الامبراطوري في غير ما يفيد المواطن البسيط، ومعاداة الجيران وما سواهم، والتضييق الصارم عبر قوانين مجحفة وتسلطية... الخ.
ما يلفت النظر في هذه الأزمة والحصار المضروب من قبل الباسيج على طهران أن أحداً لم يكن يتصور أن يتعرض نظام ولاية الفقيه لهذه الهزة بتلك السرعة، ولم يكن في الحسبان ـ ربما لمدبري الاحتجاجات أنفسهم ـ أن الإيرانيين سيتجاوبون هكذا مع الثائرين، وإذ انتفش الطاووس كان القدر له بالمرصاد ينتف من ريشه، وتبقى الأيام حبلى بكل جديد.