نظرة على التجربة الديمقراطية في الكويت
19 جمادى الأول 1430
عماد خضر
يعيش الشارع الكويتي حالة من الترقب انتظاراً لما ستسفر عنه الانتخابات البرلمانية التي ستجرى في 16 مايو الجاري ، حيث يتنافس 283 بينهم 34 سيدة للحصول على 50 مقعداً بمجلس الأمة الذي تم حلّه من قبل أمير الكويت، الشيخ صباح الأحمد الصباح حتى يضع حداً للأزمة السياسية وحالة التوتر التي سادت بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في الأمس القريب، فقدمت الحكومة استقالتها بعد أن قدّم نواب من البرلمان ثلاثة استجوابات بحق رئيس الحكومة الشيخ ناصر المحمد، وحملوه مسؤولية تراجع البلاد وعدم قدرة حكومته على حل المشكلات التي تعاني منها الكويت. فقرر الأمير أن يسمح بقدر من الممارسة الديمقراطية المفتوحة بحسب مجموعة من القواعد الدستورية بدلاً من أن يقوّض الحياة المؤسسية.
 
مسلسل أزمات سياسية
لعل أهم ما يمكن ملاحظته من خلال متابعة التفاعلات السياسية الكويتية خلال الفترة الأخيرة، هو تعدد وتكرار الأزمات التي شهدتها الكويت في فترات زمنية قصيرة وعلى مستويات مختلفة، نتيجة تصاعد نبرة المواجهة بين البرلمان والحكومة، بشكل أضر بالعمل السياسي، وقدم صورة سلبية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية على السواء للمواطن الكويتي الذي أصبح يعيش على وقع مشاكل وأزمات لا تنتهي بين الجانبين.
لقد مرت على الكويت منذ وضع الدستور عام 1962 بأربع أزمات حقيقية على الصعيد الديمقراطي أدت إلى تعطيل العمل بالدستور، الأولى عام 1967 حيث حل البرلمان، وعطل العمل بالدستور خلال الفترة 1976 - 1980، و1986 - 1992، وتخللت هذه الفترة مواجهات أمنية، وخرجت التجمعات السياسية تطالب بإعادة العمل بالدستور، كما تعرضت الحريات العامة خلال فترات الحل غير الدستوري لمجلس الأمة للتقييد وفرضت رقابة مسبقة على الصحف. ومنذ عودة الحياة البرلمانية عام 1992، تم انتخاب خمسة مجالس ، انتهت أربعة منها بالحل الدستوري، أعوام 1999 و2006 و2008 و2009.
هذه الأزمة ليست جديدة بطبيعة الحال، وإنما هي امتداد لمسلسل الأزمات السياسية المتكررة بين البرلمان والحكومة، والتي عادة ما تنتهي بإقالة الحكومة أو بحل البرلمان؛ فمنذ تولي الشيخ ناصر المحمد مسؤولية رئاسة الوزراء قبل نحو ثلاث سنوات تم تشكيل خمس حكومات، لم يزد عمر الأخيرة منها عن 64 يوماً، تعاملت مع ثلاثة برلمانات، كما تم إجراء تعديل وزاري محدود على الحكومة مرتين، فيما تم حل البرلمان ثلاث مرات وفقاً للدستور. والتغيير هنا لا يحمل الطابع الإيجابي، بمعنى الرغبة في تطوير العمل السياسي والأداء المؤسسي، بقدر ما يحمل الطابع الاضطراري للخروج من الأزمات السياسية التي تشهدها البلاد نتيجة التوتر المستمر بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
 
برلمان معرقل للمسيرة
أثارت هذه التطورات جدلاً فكرياً وسياسياً في الشارع الكويتي حول حقيقة المتسبب في إثارتها وغيرها من الأزمات السابقة، ويمكن تصنيفها في تيارين: الأول يحمّل البرلمان الكويتي المسؤولية، ويشير إلى أن بعض أعضاء المجلس ممن يسمونهم " نواب الصراخ " يستخدمون أدوات الرقابة البرلمانية بطريقة تعسفية من خلال المبالغة في تقديم الاستجوابات لأعضاء الحكومة لأسباب بعيدة عن المصلحة العامة، وأنهم يتعمدون التضييق على الحكومة وتجاوز حدود صلاحياتهم المقررة في الدستور، فضلاً عن تدني لغة الحوار داخل المجلس بشكل غير مسبوق، وتعمد توجيه الاستجوابات إلى أعضاء الأسرة الحاكمة بشكل يوحي بتحديها والدخول معها في صراع إرادات .
وأيضا يرى هذا التيار أن البرلمان الكويتي مسؤول عن تعطيل كثير من المشروعات الضرورية للحفاظ على مسيرة التنمية والتطور في الكويت، ومن ذلك تعطيل خطة أقرتها الحكومة بقيمة خمسة مليارات دولار تهدف إلى مواجهة آثار الأزمة المالية العالمية الراهنة على الاقتصاد الكويتي، بدعوى أنها "تخلو من الشفافية والموضوعية".
كما انتقد هؤلاء الدور الذي لعبه مجلس الأمة في السابق لعرقلة مسيرة الإصلاح الديمقراطي من خلال رفض إعطاء المرأة الكويتية حقوقها السياسية والسماح لها بالمشاركة في الانتخابات البرلمانية تصويتاً وترشيحاً، وهو أمر بذلت الحكومة جهوداً مضنية حتى تمكنت من انتزاعه من أعضاء مجلس الأمة قبل الانتخابات الماضية. وينتقد هذا التيار ممارسات أعضاء المجلس بشدة . وعلى الرغم من أن وجهة النظر هذه لها بعض جوانب الصحة، فإن خطورتها تمكن من أخذها كذريعة للدعوة إلى إعادة النظر في سلطات مجلس الأمة وصلاحياته، من منطلق تحميله كل المسؤولية عن الأزمات السياسية التي تقع فيها البلاد، وقد بدأ بعض الكتاب يدعون في مقالاتهم بالفعل إلى ذلك .
 
حكومة لا تقبل قواعد اللعبة
الاتجاه الثاني يحمّل الحكومة مسؤولية تكرار هذه الأزمات السياسية، ويشدد على أن أعضاء البرلمان لا يتجاوزون سلطتهم عندما يستخدمون أدوات الرقابة المقررة لهم دستوريا في مساءلة الحكومة، ولكن المشكلة تكمن في حقيقة أن الحكومة لا تقبل بقواعد اللعبة الديمقراطية، ولا تريد أن يتم استجوابها ومساءلتها، وفي كل مرة يتعرض فيها أحد أعضاء الحكومة إلى استجواب يمكن أن ينجح في طرح الثقة فيه تلجأ القيادة إلى تغيير الوزير أو تغيير الحكومة أو حل البرلمان. ، ولا تتعامل مع هذه الاستجوابات باعتبارها حقاً يكفله الدستور لأعضاء البرلمان، وأن عليها واجب الرد على استجواباتهم أو استفساراتهم كما يرى هؤلاء أن استجواب رئيس الحكومة، لا يمثل تحدياً للأسرة الحاكمة، طالما أن الدستور الكويتي أعطى الحق صراحة لأعضاء مجلس الأمة في استجواب كل أركان الحكومة بمن فيهم رئيس الوزراء، الذي يجوز استجوابه لكن لا يسمح بطرح الثقة فيه. .
 فأكثر من مراقب للوضع السياسي يشدد على أن أداء الحكومة ضعيف، وأنها تفتقد إلى برنامج عمل, وغير جادة في معالجة المفاسد وإنجاز العديد من المشاريع الاستراتيجية التنموية وتتخوف من الاستجوابات، وسعيها إلى تأزيم الوضع السياسي بمجرد صعود قضية الاستجوابات إلى السطح، يجعلها المسؤول الأول عن استمرار الأزمة السياسية الراهنة في البلاد.
ويمكن القول أنه إذا كانت ممارسة النائب لحقوقه الدستورية في استخدام أدوات الرقابة البرلمانية حق لا جدال حوله، بل هي ممارسة رقابية محمودة ما دامت في إطارها الصحيح بما في ذلك توجيه الاستجوابات. فإن كل حق مهما كان نوعه له شروط وضوابط لا يجوز إغفالها أو القفز عنها، ولعل أهمها أن يكون منضبطاً بإطاره القانوني السليم وملتزماً روح المسؤولية ومحققاً لغاية وطنية وبعيداً عن الكيدية وشخصنة القضايا دون التقليل بطبيعة من أوجه القصور في أداء الأجهزة العامة.
وعموما، يتحمل كلا الطرفين ( البرلمان والحكومة) مسؤولية هذه الأزمات المتكررة التي قدمت صورة سلبية للتجربة الديمقراطية الرائدة في الكويت في منطقة الخليج العربي، وشوّهت وجه الحرية والديمقراطية الكويتية، وأشاعت أجواء التوتر والتناحر والفوضى بما أدى إلى تعثّر مسيرة العمل الوطني في البلاد؛ فأعضاء البرلمان كثيراً ما يفتعلون أزمات حول بعض القضايا الثانوية، فعلى سبيل المثال تسبب إصرار بعض الأعضاء الإسلاميين على استجواب وزير الأوقاف بسبب قرار منع بيع بعض الكتب الدينية في معرض للكتب في وقوع أزمة بين الحكومة والبرلمان في مايو 2007، كما اضطرت الحكومة إلى الاستقالة في نوفمبر 2008 بسبب إصرار أعضاء في مجلس الأمة على استجواب رئيس الوزراء على خلفية سماح السلطات بدخول رجل الدين الشيعي الإيراني محمد باقر الفالي إلى الكويت، على الرغم من وجود حظر قانوني على دخوله.
 
خطوط حمراء
البعض يصف البرلمان أنه أصبح فاقداً للأولويات، ولا يمتلك رؤية واضحة حول قضايا الوطن والمواطنين، وأن المشكلة ليست في الصلاحيات الممنوحة للبرلمان بقدر ما تكمن في كيفية استخدام هذه الصلاحيات وفي قبول الحكومة لها، والإقدام على خطوة كهذه سيزيد المشكلات والأزمات السياسية القائمة تعقيداً. لكن النواب يريدون إسقاط الخط الأحمر في استجواب رئيس الحكومة، بعدما فُصل منصب ولي العهد عن منصب رئاسة الوزراء، ولعلهم يتجهون مستقبلا إلى المطالبة بالمزيد من إسقاط الخطوط الحمراء. بالنظر لأن الكويت هي أول دولة عربية خليجية تنتهج الخيار الديمقراطي منذ عام 1962، والوحيدة خليجيًّا التي لها برلمان منتخب، يضم نوابًا من توجهات مختلفة إسلامية وليبرالية، ويتمتع بنفوذ سياسي. إلا أن حسم هذا الموضوع مستقبلا لن يكون سهلا لأن الأسرة الحاكمة لا تزال متمسكة بصيغة تراها مناسبة للكويت، وصمام أمان من صراعات السياسيين لكن من دون أن تجد مسارات لترجمته على صعيد الإصلاح والتنمية والتطوير.
لكن لا يمكن تجاهل الأبعاد الأخرى للازمة السياسية في الكويت، التي تندرج ضمن أصول التجربة الديمقراطية الكويتية ذاتها ، فعلى الرغم من أن الفصل بين ولاية العهد ورئاسة الحكومة قد استجاب لمطلب سياسي مهم في الكويت، إلا أن تولي أحد أعضاء الأسرة الحاكمة منصب رئاسة الوزراء، يحول دون إخضاعه أو إخضاع الحكومة للمسائلة الحقيقية أمام البرلمان، كما يجعل سحب الثقة من الحكومة بمثابة تحدٍ للأسرة الحاكمة وهزيمة لها أمام مجلس الأمة، ولعل هذا هو الذي يدفع الأمير إما إلى حل البرلمان أو تغييره أو إقالة الحكومة في كل مرة يواجه فيها وزير من الحكومة استجواباً يمكن أن يفضي إلى سحب الثقة منه.
كما أنه رغم وجود العديد من الجمعيات السياسية التي تتوافر لها كل شروط الأحزاب وتمارس عملها السياسي بصورة علنية، فإن هناك رفضاً لتحولها إلى أحزاب سياسية حيث تطالب المعارضة بالقبول بالأحزاب التي يمكن من خلالها التداول السلمي للسلطة بين الكتل البرلمانية المنتخبة، وأن تتكون الحكومة من نواب ينتخبهم الشعب حتى يمكن إخضاعها للمساءلة أمام البرلمان بدلاً من تولي أعضاء الأسرة الحاكمة للمناصب الوزارية الرئيسية وبالتالي يكون من الصعب مسائلتهم برلمانياً، وبسبب ازدهار النخب الاقتصادية والاجتماعية التي تستفيد من زخم التحديث قد تدفع إلى تشكيل حركة ضغط مستقبلا على السلطات تؤدي وبشكل تدريجي إلى تمثيل أفضل ومشاركة شعبية أوسع.
 
 
التجربة الديمقراطية في الكويت مفعمة بالخصوصيات، فهي تعيش حالة من النقاش المفتوح حول عدد من القضايا المتعلقة بعملية بناء الدولة وهيكلة المؤسسات، وهذا ما تظهره بعض التطورات السياسية التي شهدتها في الآونة الأخيرة، ولاسيما احتدام الصراع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وبالتأكيد في قسم منها نتيجة مباشرة لعملية التحديث السياسي، غير أنه لابد من النظر في تطويرها وتصحيح مسارها باستمرار من خلال آلياتها وأدواتها المقررة في الدستور طالما أنها مطالبة بالتعبير عن المجتمع بمختلف أفكاره واتجاهاته، بعيدا عن التدخل القسري من السلطة العليا حتى تصل إلى وضع الثبات والاستقرار مثلما حدث في كل التجارب الديمقراطية المستقرة والمزدهرة في العالم، وعندها يمكن الجزم بأن التجربة الكويتية ما هي سوى نسخة مسبقة لتطورات قد تأتي في دول الخليج العربي ويمكن أن يشكّل معادلة ناجحة لديمقراطية واعدة.