
كلما سمع المتلقي العربي مصطلح (المصالحة الوطنية في العراق)، اضطربت الرؤية عنده، وتعذر عليه الجزم بمدى جدية هذا الشعار، الذي يلحّ على ترديده رموز الحكومة التي نصبها المحتل من خلال مسرحية انتخابية لا تقنع أصحابها أنفسهم.
والسبب في ذلك الاضطراب يرجع إلى المؤشرات المتناقضة التي تتداخل وتتشابك؛ فكأنها لعبة متاهة مفتوحة من بدايتها لكنها مقفلة في سائر الاتجاهات بحيث يستحيل الخروج منها أو يكاد!!
فالساسة الذين يعملون وكلاء للاحتلال الصليبي الأكبر وشريكه الأصغر الصفوي، يتحدثون عن المصالحة يومياً إلى درجة تبعث على السأم - هذا لو كانت جدية - ، وتطرحها أبواق المنطقة الخضراء وأجراؤها والمراهنون عليها، عملاً بنصيحة وزير الدعاية النازي الشهير (غوبلز)، عن تكرار الكذبة حتى يصدقها الناس ثم تكرارها حتى يصدقها مُطْلِقُها ذاته!!
ولا يخفى على أهل الخبرة، أن الإلحاح في الإعلام يؤدي إلى ترويج الشائعات بين البسطاء والمحبطين، الذين يلغون عقولهم وينطلقون وراء تمنياتهم للخلاص من الوضع البائس الجاثم فوق صدورهم.
ومما يساعد هؤلاء في تمرير خرافتهم، وجود هيئة رسمية للمصالحة الوطنية، لها رئيس ونائب للرئيس وأعضاء، فضلاً عن حضورهم الإعلامي شبه الدائم.
كما انتهز أدعياء المصالحة الرسميون تهافت بعض ذوي النفوس الضعيفة والباحثين عن مكاسب شخصية، ممن كانوا في الخارج يرفعون رايات المعارضة ورفض السيرك السياسي الذي أقامه الغزاة منذ ما يسمى"مجلس الحكم" الذي ألّفه اللص الكبير بريمر هادم الدولة العراقية ومؤسس النهب المنظم وراعي سيطرة فرق الموت على البلاد (فتلك هدية العم سام الكبرى للعراقيين باسم نشر الديموقراطية!!).
وبما أن السؤال عن إمكان مصالحة العراقيين شديد الإلحاح؛ فإنه يزداد قوة وحضوراً كلما اقتربت المواعيد "الافتراضية" للانسحاب الأمريكي المزعوم من العراق. إذ يفترض أن يكون في العراق نظام سياسي متين ومتماسك، يحظى بقبول العراقيين كافة - بالنسبة للثوابت والأسس العامة وليس بالنسبة إلى التفاصيل والفرعيات-.
غير أن الصورة النقيضة تقف في المقابل، لتنسف تلك الأحلام الوردية المزيفة، فرئيس الوزراء الذي يتصدر ادعاء المصالحة هو نفسه رجل طهران بعد واشنطن، والابن "البار" لحزب الدعوة الطائفي الحقود.
وليس الأمر مجرد استحضار تاريخه الأسود، بل إن حاضره القريب لا يختلف إلا في الشكل والإخراج، والشواهد جمة وجلية بدءاً من ممارساته الطائفية الفعلية وتباهيه بتنفيذه توجيهات السيستاني على الملأ، ومكاييله المزدوجة بحسب الانتماءات الطائفية، بالإضافة إلى جيوش المستشارين المحيطين به وهم جميعاً من لون واحد!!
ناهيك عن مماطلته في تنفيذ العهود التي قطعها للآخرين على طريق المصالحة مثل تقويم الدستور المهزلة الحافل بالثغرات المضحكة المبكية على كل صعيد، وإعادة ضباط الجيش العراقي السابق الذين شرّدهم الحقد المشترك: الصليبي/اليهودي/الصفوي!!
وكذلك تعديل قانون اجتثاث البعث، الذي فصّله القوم ليقوم في وقت واحد بمهمتين متضادتين: تبرئة أزلام النظام السابق ما داموا من الشيعة، وتصفية أهل السنة حتى لو كانوا مضطرين إلى دخول حزب البعث قديماً حفاظاً على لقمة عيشهم بل على رؤوسهم أحياناً!!
والدليل الأشد وضوحاً، قدمه المالكي ورهطه من حيث لا يشعرون؛ فهم اليوم يصرون على حصر المصالحة مع البعثيين بغير الصداميين، وهي لعبة لفظية لإعادة بعثيي العراق الذين كانوا لاجئين في سوريا ويعملون لإسقاط نظام صدام حسين، وليس من المصادفة في شيء أن يكون أكثر هؤلاء من الطائفة التي يتعصب لها المالكي وعصابة المنطقة الخضراء!!
وفي الإطار نفسه يتعامل المالكي مع ما يسمى الصحوات لمجرد أنها من طائفة معينة، وربما يدخل في نطاق النكتة الباهتة تعيير المالكي لها بأنه صناعة أمريكية، ونسي أنه وجميع أشباهه من الأدوات العميلة المفروضة منتج أمريكي، لكنه على حق إذا كان يعني "تميزه" بأنه إنتاج أمريكي إيراني؛ فرجال الصحوات لم يحظوا مثله بـ"الشرف الصفوي"!!
والأدهى من كل ما سلف - على فداحته - التردي المستمر والمتزايد في الأوضاع المعيشية في العراق بفعل التسلط الطائفي والإقصاء للعرب السنة تحدياً، وانحدار مستوى الخدمات، واستفحال الفساد والرشوة، كل ذلك يمنع بضعة ملايين من العراقيين المشتتين في أصقاع الأرض من العودة إلى وطنهم بالرغم من حيادهم سياسياً - إن لم نقل: لا مبالاتهم وقنوطهم من الواقع الرديء-.