
قد يستطيع المسلم أن يفهم دوافع الغرب من وراء المؤتمرات الكلامية التي تعقدها الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، لكنه لا يستطيع استيعاب الحرص العجيب والإصرار الغريب من كثير من حكومات البلدان الإسلامية على المشاركة، بالرغم من علمها أن هذه المؤتمرات –ف ي أحسن حالاتها!! - حائط مبكى، يتاح فيه لبعض المظلومين التنفيس "المؤدب" عن بعض ظلامات شعوبهم، لكي يتم "تخدير" أعصابها فتتوهم أن معضلاتها قد حُلّتْ وأن الجور قد زال عن كاهلها.
لكن هذه الملتقيات في واقعها ذات أهداف أبعد من مجرد التنفيس الوظيفي، وأهمها التطبيع بين الضحايا وجلاديهم، فتضيع حقوق الأمم في دهاليز الثرثرة الجوفاء، وتندثر هويتها في معمعة التفاصيل الشائكة، وتموت قضاياها نتيجة تسويات خادعة يحصلون في نهايتها على فتات الفتات التي يتصدق بها الغاصبون من "فوائد"عدوانهم!! ومنذ القديم قالت العرب في مأثوراتها البليغة: لا يستقيم الظل والعود أعوج!! فالخلل في العالم اليوم بنيوي متأصل وليس عَرَضاً عابراً.
وإلا فكيف يتمكن العاقل في ظل نظام دولي كهذا مليء بالجور ومؤسس على سيطرة القوي واحتقار الضعيف، كيف يتمكن من تصديق "مواعظ" الذين عاثوا في الأرض فساداً عندما يلقون الخطب العصماء عن حقوق الإنسان، ويرفعون عقيرتهم بمحاسن العدالة والمساواة، ويدبجون المقالات الرنانة ويكررون الشعارات البراقة كأنها أناشيد بهيجة!! فذلكم هزل يثير البكاء.
فها هي منظمة الظلم الأممي (المسماة: هيئة الأمم المتحدة) ورأسها مجلس الخوف (ويدعى نظرياً: مجلس الأمن!!) الدولي القائم على فوقية خمس دول على سائر البشر، ما الذي فعلتْه لإنصاف أي شعب مقهور منذ تأسيسها قبل أكثر من ستين عاماً؟! انظروا إلى فلسطين وكشمير وأفغانستان والبوسنة والفلبين وميانمار (بورما) والصين والشيشان....صحيح أنها جميعاً جروح إسلامية مزمنة، لأننا الغاية الأولى لثقافة البغضاء ولنظام الكراهية، لكن الظلم شمل شعوباً أخرى لأنها أرادت أن تكون حرة تقرر مصيرها بنفسها - كما يزعم ميثاق المنظمة الدولية - :إفريقيا كلها بما فيها من بلدان وثنية - فيتنام على يد الفرنسيين ثم الأمريكان....
إن الأمم المتحدة لم تكن في تلك المآسي كلها، أكثر من شاهد زور لتمرير الحيف وإضعاف عزيمة المعتدى عليه، بل إنها كانت في أكثر الأحوال شريكاً كاملاً في عقد صفقات لتأبيد الظلم وتزيينه في عيون المغلوبين.
وها هي الأمم المتحدة تعقد في سويسرا مؤتمر ديربان الثاني لمكافحة العنصرية؛ فيتهافت الضحايا كالعادة على الحضور، ويتغيب الأمريكيون وحليفتهم الصهيونية، احتجاجاً على احتمال الإشارة إلى عنصرية الكيان الصهيوني، بالرغم من رضوخ العرب لإملاءات واشنطن وأوربا بحذف تسمية الكيان الصهيوني من توصيات المؤتمر التي سوف تبقى حبراً على ورق!! وأكمل الصليبيون الأوربيون مهمة عمّهم الأكبر فغاب بعضهم، وحضر آخرون ثم انسحبوا عندما تحدث الرئيس الإيراني وهمس باسم "إسرائيل" على استحياء وبصورة عَرَضِية.
ويتصدى له الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في حملة دفاع شرسة عن الصهاينة الذين لم يُذكَروا صراحةً، مع أنه في خطابه حرص على تسمية نقد "إسرائيل" بأنه معاداة للسامية، واكتفى بوصف الحروب الصليبية المستمرة على الإسلام وأهله "التخويف من الإسلام"!! وتناسى أرفع مسؤول دولي أن معاداة السامية صناعة غربية 100%!!
وبصرف النظر عن التقليد الراسخ لدى الصفويين الجدد بـ"مجاهدة الشيطان الأكبر" بالشتائم على الملأ، وتنفيذ الصفقات معهم فوق أرض الواقع، بصرف النظر عن ذلك؛ فإن ما أعلنه نجاد في جنيف ربما كان من لحظات الصدق النادرة، غير أنه لم يدرك مسبقاً أن الغرب يعنيه تعاون طهران معه ضد مصالح المسلمين ولاسيما في العراق وأفغانستان فضلاً عن ادعاء نصرة فلسطين لفظياً. الأمر الذي يؤكد القاعدة التي سلفت الإشارة إليها وهي السماح ببعض الشتم المحسوب بجرعات يجري الاعتراض عليها لإظهار أصحابها في صورة الوطنيين والمجاهدين ...
من هنا أفلسنا - نحن المسلمين - أحق بالمقاطعة الفعلية لمثل هذه المهرجانات التي إن لم تضر فلن تنفع، مع أن التجربة أثبتت أنها ضارة بل شديدة الضرر؟