درس غزة ما بعد العدوان: مقاومة من الصعب أن تعود إلى الصفر !
16 صفر 1430
ياسمينة صالح

لقد علمتنا التجارب الكثيرة والمتداخلة، السياسية منها والاجتماعية وحتى اليومية أن النزاع المسلح عمره ما كان حلا لصراع ما، وأن الحوارات المبنية على النفاق لن تقدم خطوة نحوالمصالحة التي يرجوها البسطاء على الأقل، أولئك الذين يضحون ويضحون لأجل نهار جميل خال من التلوث ومن روائح القنابل النافثة للغبار السام. لكن التجربة ذاتها تبدوغائبة عن أولئك الذين راهنوا للنيل من رأس المقاومة في غزة، معتقدين أن حماس مجرد حركة اتهموها بالأمس بالتمرد واتهموها اليوم "بالجنون"! لكن الصورة الأخيرة أظهرت من جديد أن المقاومة ليست مجرد شخص أواثنين، وليست فقط "إسماعيل هنية" وخالد مشعل، إنها كل الناس. إنها المدينة التي رفضت الاستسلام للجبناء والقتلة على مدى أكثر من عشرين يوما وآلاف من الضحايا بين شهيد وجريح. الإعلام الغربي حرص على أن ينقل الصورة لمشاهديه وفق حساسيتهم المفرطة، وعشقهم للسلام المبجل الذي رموه قبل ثلاثين عاما إلى الزعيم عرفات كعظمة ناشفة وقالوا له إما أن يأكلها أوتموت جوعا! وكان الرجل قد تقدم به السن وتعبت أسنانه، وإن أكل منها قليلا إلا أنه لم يمت جوعا، بل مسموما!

ما أثارني هوالصورة دائما. تلك الصورة التي نقلها عشاق حقوق الإنسان من الديمقراطيين المسالمين لشعوبهم قائلين لهم " أنظروا حرب إسرائيل كم هي النظيفة! حرب على "حفنة من الإرهابيين" المتهمين بمحاولة غسل العار العربي عن أمة عدد سكانها أكثر من اليهود شمالا وجنوبا، وشرقا وغربا! الصورة كانت مليئة بالرتشوتات، الفتوشوب "الإسرائيلي" عمل عمله في أحداث غزة، ضمن طريقة نقلها إلى المشاهد الغربي بكاميرات تتحكم فيها الصهيونية العالمية لتبقى الحرب متجسدة فقط في مباني مهدمة وغبار يتصاعد، فإسرائيل تملك صواريخ ذكية ودقيقة يمكنها أن تقتل الجدران وتترك الإنسان حيا، لأن إسرائيل دولة ديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط على حد تعبير الهمجي الجبان جورج دابليوبوش!  لا أثر في الصورة للقتلى ولا للأشلاء التي خلفتها طائرة الأباتشي المسعورة، لا أثر لجثث الأطفال الصغار الذين قضوا بتهمة " الإرهاب" لأنهم كانوا نائمين وقت القصف، كانوا يحلمون كما يحلم أطفال العالم بغد مشمس ليلعبوا في ساحة الدار دون حاجة إلى الخوف والرعب والشتات المزمن! الصورة المليئة بالخيانة التي أصرت بعض الدول العربية المتخاذلة على نقلها إلى شعوبها بوصف الشهداء بعبارة " قتلى" كأنهم " قولوا" (!) في كوكب زحل، وكأن المعتدي هوتسونامي شرس جاء ليحول مدينة إلى دمار شامل! لكن الحقيقة ظهرت في اليوم الثالث كما قال أولئك الذين خرجوا في الشوارع الأوروبية تنديدا بالمحرقة الصهيونية أمام مرأى المجتمع الدولي، وأمام مرأى من دول عربية قريبة من غزة جغرافيا، وبعيدة عنها عاطفيا، كأن الواقع يقول: الدم أصبح ماء!

حماس ولدت وترعرعت وستظل في غزة:
 مخطئ من يعتقد أن قادة حماس يشبهون ياسر عرفات ( مع احترامنا الشديد لمواقف نشهدها له برغم كل شيء) ولم ولن أقول أنهم يشبهون السلطة الفلسطينية بقيادة رئيسها الذي انتهت صلاحيته الرئاسية هذا الشهر عمليا، وانتهت قبل سنوات صلاحيته الإنسانية أصلا. فحماس لم تأت من فراغ، ولم تولد لقيطة كما ولدت التيارات الطحلبية الكثيرة في البلاد العربية. حماس جاءت من صلب هذه الأرض الغزاوية، وليس لها أرض أخرى لتذهب إليها، أوتناضل فيها، ولأنها بهذه البساطة جزء من الناس الذين استطاعوا تحريك العالم كله. لأول مرة منذ هزيمة 67 من القرن الماضي نظر العالم كله إلى عيني طفل فلسطيني مقتول، ورأس طفلة مدفون جسدها تحت الأنقاض. الصورة الحقيقية التي لا يمكن للصهاينة إقناع العالم بأن حركة حماس عملت "فوتوشوب" عليها. الصورة التي رآها الانجليزي والنرويجي والإسباني والمالطي ولم يرها النظام العربي الغارق في حسابات الدنيا، ومشغول بعضه في الشخص الذي سيرث الحكم بعد الحاكم المزمن، وفي الكراسي التي نسوا أنها لن تبقى لهم طالت أعمارهم أم قصرت. نسوا الله، ونسوا الأمانة التي يحملونها أمام الله يوم لا ينفع كرسي ولا وساطة ولا بوش الأهوج ولا ملك ولا مال.. لا شيء إلا تلك المساءلة التي لا بد أن يرد عليها أولئك الذين ضربوا شعوبهم على القفا سنوات طويلة صنعوا فيها من دولهم "مزبلة" للغرب، وصنعوا من رجالهم " حريم بشنب" ومن نسائهم أشباه آدميين يلهثون وراء الأضواء والمنافع والمصالح الدنوية على حساب كل القيم والآداب الأبسط: الأخلاق! وحدهم سكان غزة حركوا الصورة الوحيدة التي غذت إيماننا أن النصر صبر ساعة، مهما بدا طويلا ومتعبا ومؤلما، ولأن وجود حماس في سياق شرعيتها السياسية التي خولتها لها انتخابات دستورية وديمقراطية بمصطلح الغرب، ولم تأت حماس على ظهر دبابة، بل جاءت إلى السلطة بصندوق الاقتراع، فكيف يمكن إدراج حركة ـ  انتخبها الشعب انتخابا شرعيا ـ في قائمة الإرهاب؟ وكيف حق للسلطة الفلسطينية في رام الله أن تجوع شعب اختار ممثليه انتقاما منه على ذلك الاختيار؟ ألم يفعل محمود عباس الشيء نفسه الذي فعله الصهاينة طوال ستين سنة؟ ألم يكن جزء من الحصار؟ من التجويع؟ من الإذلال الذي عاشه سكان غزة سنوات طويلة؟ كيف يمكن معاقبة مدينة تحتوي على مليون ونصف مليون ساكن لأن حماس تقاوم الاحتلال في الوقت الذي تحول الاحتلال إلى " أمر واقع" في لغة الفتحاويين، وإلى " محبة ممكنة" بلغة محمود عباس وأنظمة الجوار؟ هل يمكن تصديق محبة ممكنة قبالة كل هذا الحقد وهذه الضغينة في تحقير وتجويع وقتل وترهيب شعب كامل؟ هل يمكن الحديث عن حب ممكن مع الصهاينة الذين نسفوا المساجد كأنهم يوجهون الرسالة المفهومة للدول الإسلامية نيابة عن الدنمركيين القذرين. هل يمكن أن نتسامح مع الصهاينة اليوم ونتكلم عن مفاوضات وتنازلات وأحضان خادعة ونمارس مزيدا من التجويع والتحقير لسكان غزة لأنهم تحولوا كلهم إلى مقاومة. لم يخرجوا إلى الشوارع للتنديد بحماس ولم يقولوا أن حماس هي التي تسببت في الحرب كما قالها أشباه الرجال. مليون ونصف مليون غزاوي تلقوا القنابل ولم يشكوا لحظة أن الحل في المقاومة. فالقنابل تسقط عليهم كل يوم، والتجويع صار عنوان بريدهم اليومي، فكيف يمكن قبول هذا العار بالله عليكم؟ وكيف نتهم حماس بأنها " أخطأت" في الوقت الذي لا نوجه كلمة واحدة للصهاينة بالبصق عليهم واحدا واحداً والقول لهم: ألا لعنة الله على القوم الظالمين.

محمود عباس: ليتك تخجل من شبتك! 
لم تكن ثمة حرب بمعناها العسكري الدقيق، فالحرب معناه قوتان متوازيان تستعملان الطرق والأساليب ذاتها في القتال، وما جرى كان إبادة إنسانية شنيعة، محرقة رهيبة في بداية العام الميلادي الجديد الذي احتفل به حثالة الأرض الواهمين أن السلام سوف يأتي على طبق من ذهب، وأن إسرائيل التي تقتل الأطفال بهذا الشكل هي التي سوف تطبطب على أكتافهم وتسلم عليهم في المناسبات لأجل سلام أثبت الزمن أنه غير ممكن، بل ومستحيل في وجود دمويين صهاينة يتلذذون باللحم الفلسطيني بهذا الشكل بتواطؤ من عرب باعوا ملتهم للشيطان! حماس المطالبة اليوم " بوقف صواريخها على المساكين الإسرائيليين الأبرياء"، لا يمكنها أن تتنازل عن مطالبها البسيطة في فتح المعابر، وإعادة إعمار غزة وتعويض الضحايا قدر المستطاع ( عوضهم الكامل على الله تعالى)، ولا يمكنها أن تتراجع قيد أنملة عن مكاسبها الصغيرة رغم الصعاب والخسائر، عليها أن تستثمر مقاومتها لأجل مقايضة الجميع، بمن فيهم الخونة العرب لأجل ألا يبيعوا غزة كما باعوا القدس، ورام الله، والمدن الفلسطينية التي تنازل قادتها الفلسطينيون من السلطة لإسرائيل دون أن يكسبوا شيئا. فيا أيها الرئيس محمود عباس، ليتك تعد لنا مكسبا واحدا حققته لشعبك من كثرة الأحضان للصهاينة ( كثر السلام يقلل المعرفة!).. مكسب واحد فقط أخذته من أحضانه الكثيرة للصهاينة. ألم تفرض إسرائيل الحصار عليك أيضا؟ هل يمكنك الدخول والخروج دون إذن من إسرائيل؟ هل يمكنك إصدار قرار واحد دون العودة إلى إسرائيل؟ حتى قرار حضور قمة الكويت كان بموافقة إسرائيلية مسبقة! فما الذي حققته السلطة الفلسطينية عبرك غير صفقات الاسمنت التي يتاجر بها أبناؤكم ليمتصوا مزيدا من دماء شعبكم، وكوطات صنعت من أبناء " الكبار" " أمراء" على الطريقة الأندلسية! في أرض تهددكم إسرائيل بنفسها تحتكم إن فتحتم أفواهكم لغير الأكل المسموم بلحم أبناء شعبكم.. فكيف تعتقد يا رجل أن المقاومة لعبة صبيانية متهورة كبرتم عليها! كبرتم عليها؟ يا إلهي.. ليتكم كبرتم عليها فعلا لم انتهى حالك إلى مجرد رئيس الأحضان الشرفية في مسرحية سخيفة حد الضجر!!!