أنت هنا

من دروس معركة الفرقان: أين الله!
9 صفر 1430
هيثم الكناني

أثناء الغزو الأمريكي للعراق، استوقفني مشهد تلك المرأة النصرانية التي قصفت طائرات الاحتلال قريتها، حيث ظهرت على الشاشات تصرخ وتنتحب وترفع وجهها ويديها إلى السماء صائحة: أين الله! أين الله! ألا يرى ما حل بنا؟

 

لقد زادتني غماً على غم! إذ كان أجدادي يدافعون عن أجداد هذه المرأة وأمثالها من أهل الذمة مقابل وفائهم بالعهد، فآل الأمر إلينا ونحن لا نملك من أسباب الدفع المادي عنها -بله عن إخواننا المؤمنين- شيئاً.

 

ومع بدء الحرب على غزة -التي أرادها اليهود برصاص مسكوب استئصالاً، وأرادها المؤمنون بالتوكل على الله فرقاناً، فكان لهم بفضل الله ما أرادوا- عادت صورة تلك المرأة إلى الذاكرة، لا لأننا سمعنا أو رأينا إخواننا الصابرين في غزة يقولون بقولها، بل لأننا وجدناهم يقولون: أين العرب؟ أين المسلمون؟ حسبنا الله ونعم الوكيل!

 

صورتان لموقف واحد، وشتان ما بين الصورتين؛ أما تلك المرأة فكانت تعترض على الله، وتشكو من يقدر لمن لا يقدر، ومن إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، لمن لا يملك من أمر نفسه شيئاً، لقد كانت تشكو من يرحم لمن لا يرحم.
وأما إخواننا وأحبتنا فقد كانوا يشكوننا إلى الله! يشكون من يقدر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على نصرتهم فيخذلهم، لِمَن رُوي أنه يخذل من خذل عباده المسلمين، في موقف يحب أن ينتصر له الله فيه، ففي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من امرىء يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته"(1)، يشكون لله -وحق لهم الشكوى- من لهم عليهم حق النصرة إذ "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره"(2)، ثم بعد ذلك يسلمون أمرهم كله له سبحانه، وهذا لا يعارض التوكل، بل هو منه.

 

إن هذا الموقف العظيم من إخواننا هؤلاء -رغم ما كان ينزل بهم من قتل وتشريد وتدمير وتعذيب- لا يمكن أن يأتي من فراغ، فهو ثمرة طيبة مباركة من ثمار التربية الإيمانية، هذه التربية التي لا نشك أنها تسير في غزة خطوات حثيثة منذ سنوات، على أيدي أبناء الشيخ أحمد ياسين رحمه الله وأمثاله من الدعاة الصادقين، نحسبهم كذلك، والله حسيبهم.

 

ورغم أننا لم نسمع من أحد في غزة مثل مقالة تلك المرأة، إلا أننا لا نأمن على أنفسنا أو إخواننا من وساوس الشيطان، فقد يأتي لأحدنا بمثل هذا السؤال، وقد لا يكون على سبيل الاعتراض أو شكوى الله عز وجل، عياذاً به من ذلك، ولكن من باب استعجال الفرج، أو من باب العَجَب من تسليط الكافرين على المؤمنين، وقد وقع لخير قرون هذه الأمة شيء من ذلك!
فيوم كان المسلمون مستضعفين في مكة وقد أذاقهم المشركون من العذاب ألواناً وصنوفاً شتى، أتى خباب بن الأرت رضي الله عنه النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقال: "يا رسول الله، ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: لقد كان من قبلكم، ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، ولَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر، حتى يسير الركاب من صنعاء إلى حضرموت، ما يخاف إلا الله"(3)، وفي رواية بزيادة: "ولكنكم تستعجلون"(4)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن هذا الابتلاء والامتحان قد قدره الله عليهم، كما قدره على أتباع المرسلين من قَبل، وأن العاقبة ستكون لهم كما كانت لأولئك، وليس في الحديث أنه لم يَدْعُ لهم، وليس فيه أنه نهاهم عن الدعاء، لكن الذي فيه إرشاد منه -بأبي هو وأمي- إلى ضرورة النظر إلى بواطن الأمور وحقيقتها، وعدم الوقوف عند ظواهرها، فحقيقة الأمر أنه ابتلاء وتمحيص من الله عز وجل، ليحيى من حيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، وأما النصر والتمكين للمؤمنين، فهو آت لا محالة.

 

وكذلك يوم أحد! لما قتل المشركون سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال المسلمون: {أَنَّى هَذَا}؟ [آل عمران: 165]، أي: (مِن أين أصابنا هذا الذي أصابنا؟ ونحن مسلمون وهم مشركون، وفينا نبي الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي من السماء، وعدوُّنا أهل كفر بالله وشرك!)(5) ، وكما بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم بواطن الأمور لأصحابه في مكة، وخفف عنهم، وبشرهم، فقد بينها لهم ربنا عز وجل يوم أحد، وخفف عنهم، وبشرهم فقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران: 166، 167]، وقال: { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، وقال: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104].

 

فالابتلاء والتمحيص سنة الله عز وجل الماضية في خلقه، حيث جعل الدنيا دار ابتلاء وعمل، وجعل الآخرة دار جزاء وحساب، وكل ما يقع على المؤمنين من محن فإنما هو للتمحيص، وهو بعلم الله وقدره، ولو شاء لما وقع، ولكنه يغفر به الذنوب ويرفع الدرجات، وهم برغم ما يصيبهم الأعلون إن كانوا مؤمنين حقاً، وما أصابهم من ألم فإنه يصيب عدوهم مثله، بل يصيبه من الخوف والهلع أضعاف ما يصيبهم، ثم قتلى عدوهم في النار، وقتلاهم في أعلى عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

 

ولمن سأل أين الله؟

فإنه فوق سبع سماوات يرى ويسمع، ولا تخفى عليه خافية، ولمن غابت عنه هذه الحقائق أثناء المعركة، فقد آن له أن يستحضرها لا سيما وهو يرى جيش العدو برغم الفارق الكبير في العدة والعتاد، قد انسحب مخذولاً مدحوراً صفر اليدين، كما قال تعالى في حق الأحزاب: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25]، والحمد لله رب العالمين.

_________________
(1) سنن أبي داود 2/687 (4884)، وضعفه الألباني.
(2) صحيح مسلم 4/1986 (2564).
(3) صحيح البخاري [جزء 3 -  صفحة 1398]  (3639).
(4) صحيح البخاري 3/1322 (3416).
(5) تفسير الطبري 7/371.