أنت هنا

الفرحة الساذجة
11 ذو القعدة 1429




لا غرو أن يفرح المسلم بتغيرات إيجابية تطرأ على الساحة الدولية قد لا يكون فاعلاً بالتأثير فيها، بل كذلك قد يكون ذلك من التفاعل الإيجابي المحمود الذي يؤخذ في سياقه الطبيعي كنظرة استراتيجية بعيدة المدى، ورغبة في اختزال المسافة الإصلاحية، وبعداً فكرياً يستند إلى أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.

وقد كان المسلمون كذلك في مهد الرسالة يفرحون بالانتصارات التي تخدم قضيتهم ولو لم تكن اللحظة قد حانت بأن يكونوا أمة لها تأثيرها الإشعاعي خارج صحارى وجبال الجزيرة العربية؛ فضعف العدو على كل حال هو رصيد يخصم منه ويضاف إلينا متى كنا نتحرك بالاتجاه الصحيح.

ولما نزلت الآيات الكريمات يتلوها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه غضة : "الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ. وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ. وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ. يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ. وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ" [الروم الآيات من 1 حتى 5]، استبشر المسلمون فرحين بانتصار حدث في "أدنى الأرض" سيحدث بعد سنوات، يرجون خلالها أن تمخر سفينة الإيمان عباب بحور الظلمات إلى شاطئ الهداية والرضوان لأهل الأرض جميعاً، كانوا يتحركون بكل اتجاه وينظرون لمثل هذه الأحداث التي لم يكونوا صانعيها في ذلك الوقت قبل أن يصنعوا تاريخ الكرة الأرضية كلها بعد سنوات قلائل، على أنها محض مبشرات أو خطوة يتراجعها الكفر أمام جحافلهم الموعودة.. وإذ كان المشركون في مكة منتشيين بهذا الانتصار الشركي المجوسي على أهل الكتاب (الروم الذين كانوا الطرف الأقرب للمسلمين ـ برغم كفرهم ـ على كل حال، تساوقاً مع نظرة حكيمة غير متشنجة للأحداث) كان المسلمون يتطلعون إلى الأمام حيث انكسار شوكة الفرس المتجبرين، يقول ابن عباس رضي الله عنه في الآيات: " كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَر أَهْل فَارِس عَلَى الرُّوم لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْل أَوْثَان , وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَر الرُّوم عَلَى فَارِس لِأَنَّهُمْ أَهْل كِتَاب"، وقد كانت الأحداث دائرة بخلاف ما يتمنى المسلمون حيث قادت الحرب العالمية وقتها إلى هزيمة نكراء للروم، قيل ـ كما ذكر القرطبي ـ " إِنَّهُ آخِر فُتُوح كِسْرَى أبرويز فَتَحَ فِيهِ الْقُسْطَنْطِينِيَّة حَتَّى بَنَى فِيهَا بَيْت النَّار; فَأَخْبَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَاءَهُ ذَلِكَ , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ"..

إن ما تقدم خلاف مغاير تماماً للفرحة الساذجة التي تبدت في وجوه بعض المسلمين استبشاراً بالرئيس القادم إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية.

صحيح أنه قد حُقّ لنا أن نفرح لأن المقاومة الإسلامية في العراق وفلسطين وأفغانستان والصومال قد كسرت ظهر المحافظين الجدد ودست أنف بوش وشيعته في التراب، وصحيح أن في الأزمة المالية ـ برغم كل ما قيل عن تضرر المسلمين بها بشكل أكبر أو أقل ـ تسعد المؤمنين وتشفي صدورهم من تلك الدولة المتكبرة، لكن الإفراط في الفرحة هو محض سذاجة في الحقيقة لأن ما ينسكب من بين طياتها لا يبشر بما يتطلع إليه المتفرجون، إذ المجد لا تصنعه مقاعد المتفرجين، وما دمنا نجلس عليها فسنكون أول ضحايا "أمريكا الجديدة" كما كنا آخر ضحايا القديمة، لأن سنن الله لا تتبدل، وهي أمامنا تقول: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ "..