زيارة بابا الفاتيكان إلى فرنسا الأسباب والتوقيت
6 شوال 1429
عبد الباقي خليفة
قام بابا الفاتيكان الشهر الماضي بزيارة إلى فرنسا ، سبقتها زيارة للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى الفاتيكان ، اعتبرها الكثيرون تدشينا لمرحلة جديدة من العلاقة بين الفاتيكان وفرنسا . بعد قطيعة دشنتها الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر والتي كان من شعاراتها " أشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس ".
 
تاريخ العلمانية في فرنسا :
  دشنت فرنسا عهد الارهاب الذي بدأ في أغسطس سنة 1792 م، ثم قانون المشبوهين الذي صدر في سبتمبر 1793 الذي يسمح بالإدانة دون حاجة لتقديم الدليل .
وفي خريف سنة 1793 م عرضت شتى المغريات على القساوسة في باريس للتخلي عن كهنوتهم والتنكر لدياناتهم .وقد تنكر جوبل كبير أساقفة باريس الذي كان قد أقسم اليمين على احترام الدستور المدني وقطع صلته بروابطه المسيحية الإدارية في روما.
 
 وفي 10 نوفمبر 1793 م انتهكت حرمة كاتدرائية نوتردام  بإقامة شعائر "عبادة العقل " ولم تكن العبادة الجديدة ضربا من الإلحاد بل كانت أقرب إلى صورة مبهمة جدا من الإيمان بالله، وفي 24 نوفمبر من نفس السنة أغلقت جميع الكنائس في باريس وامتدت الحركة إلى الأقاليم، وقدر عدد الكنائس التي حولت إلى (معابد للعقل) بنحو 2400 كنيسة في فرنسا كلها.
 
 بعد ذلك انقسم اليعاقبة  إلى ثلاث أقسام متناحرة، وأرسلوا بعضهم بعضا إلى المقصلة وانتصر كل منهم لآرائه على جثث خصومه، فهلك هيبر، ثم دانتون وكميلي مولان رغم دورهم في الثورة وفي تصفية الخصوم، وجاء دور روسبير الذي أرسل رفاقه للمقصلة ليشرب من نفس الكأس في 27 يوليو 1794 م، ومن ثم فقد مضى بشخصيته التراجيدية الغريبة إلى المصير المفجع الذي أرسل إليه مئات الناس من قبله.
 
قرون وسطى ضد الاسلام :
 وقد استمرت القطيعة رسميا بين الكنيسة والدولة حتى ظهر الإسلام كعدو بديل للشيوعية، فطبيعة الغرب لا يمكنها العيش بدون أعداء، وهنا اجتمع الجميع على محاربته كما حاربوا رموز عصر الأنوار، وبدأت حرب باردة ضد الإسلام بتعبير رئيس وزراء السويد الأسبق كيبل.
 
 كانت تصريحات بابا الفاتيكان حول العقل في الإسلام، ومن ثم الرسوم المسيئة، وبعض الأعمال العدائية كنشر ما يوصف بـ"الفرقان" كبديل عن القرآن الكريم، وصدور رواية مسيئة للسيدة عائشة وغيرها من العمليات العدائية. كل ذلك لوقف تقدم الإسلام في الغرب، وهذا أحد أهداف زيارة بابا الفاتيكان لفرنسا التي ينتشر فيها الإسلام بشكل ملحوظ.
 
 وهناك مسلمون فرنسيون على درجة كبيرة من العلم والثقافة منهم علماء فلك وعلماء في الطب والجيولوجيا وغيرها. وهناك أنباء تشير إلى إسلام أكثر من ألفي فرنسي كل عام أغلبهم من الشباب. وقد جاءت زيارة بابا الفاتيكان لفرنسا بعد زيارتين قام بهما الرئيس ساركوزي للفاتيكان لترتيب عملية مواجهة الإسلام ليس في فرنسا والغرب فحسب بل في كل مكان.
وقبل توجهه إلى فرنسا، كان بابا الفاتيكان واضحا في رسالته بتاريخ 16 يوليو 2008 م إلى المشاركين في يوم الشباب العالمي بسيدني إلى الاتحاد معه من أجل شباب فرنسا، على حد تعبيره. وجاء الرد من سيدني بتوجيه اتهامات لمسلمين هناك بالإرهاب، فليس لديهم حجج ضد الإسلام والمسلمين سوى اتهامه واتهام شبابه بالإرهاب، دون تمكين الضحايا من الدفاع عن أنفسهم أمام الرأي العام الذي يعملون على خداعه.
 
 وفي فرنسا طالب بابا الفاتيكان بمفهوم جديد للعلمانية أو بتعبير ساركوزي " العلمانية الايجابية " التي لا تعادي الدين. ونحن لسنا ضد العلمانية الايجابية التي لا تعادي الدين في بلاد الغرب كحد أدنى مقبول للمسلمين هناك، وإنما ضد أن تكون العلمانية ايجابية مع الكنيسة التي تبادلت معها الاضطهاد، في مواجهة الإسلام الذي يدعو للحرية وعدم فرض الإيمان، كما هو حال التاريخ الكنسي بدون استثناء.
 
 وعندما طالب بابا الفاتيكان بالحرية الدينية للمواطنين وبواجب الدولة إزاءهم، لم يتطرق لقضية منع الحجاب داخل المدارس الفرنسية، كما لم يتطرق إلى ذلك من يكيلون المديح لفرنسا!
 
كما تحدث بابا الفاتيكان عن دور الكنيسة في وقف انتشار الإسلام، ولكن بطريقة غير مباشرة عندما تطرق لـ " دور الكنيسة في تشكيل الوعي رغم إضفاء الصبغة الأخلاقية عليه.
 
الحرب ضد الإسلام :
نظر الكثير من المهووسين بالصراع الديني إلى انتشار الإسلام، على أنه تهديد أمني، ليس في الغرب فحسب بل في بلاد المسلمين حيث يعود الشباب إلى محاضن الإسلام الوارفة، ولذلك تهتم الاستخبارات الغربية بنسبة الملتزمين في المجتمعات الإسلامية، وتحرض السلطات على تحجيمهم حتى لا يتعدوا نسبة العشرة في المائة. وذلك بمختلف وسائل الترغيب والترهيب، كالحملات الأمنية المتواصلة والسجن للملتزمين، والقنوات الخليعة والمبتذلة وما شابه لصرف الناس عن الالتزام بالإسلام.
 
ولا تقتصر الحرب ضد الإسلام على نشر صور أو دبلجة أفلام أو إصدار رواية، وإنما وصلت إلى حد المطالبة بمنع بناء المساجد كما هو الحال في ايطاليا وألمانيا.
 
وفي 19 سبتمبر2008 م أقيم في مدينة كولونيا الألمانية مؤتمر لممثلي عدد من الأحزاب اليمينية الرافضة لانتشار الإسلام في القارة الأوروبية. ودعت حركة "برو كولن" (من أجل كولونيا) التي تعارض انتشار الإسلام في ألمانيا، وتركز حملتها خاصة على بناء مسجد كبير في المدينة، شخصيات أوروبية من أقصى اليمين المتطرف للمشاركة في المؤتمر.ونظم تجمع وسط المدينة القديمة شكل النقطة الرئيسة في جدول أعمال المؤتمر، وتتخلله خطابات حول موضوع ما يزعم أنه "دفاع عن القيم المسيحية".
 
 ولا لم يخل الموقف من عقل حيث تظاهر عشرات الآلاف ضد المؤتمر داعين لحرية التدين كما دافع رئيس بلدية كولونيا فريتز شراما الذي ينتمي إلى حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي عن بناء المسجد الكبير الذي أقر في نهاية أغسطس، وستكون للمسجد الجديد مئذنتان بارتفاع 55 مترا وسيتسع لنحو ألفي شخص، وهو ما سيجعل منه أحد أكبر مساجد ألمانيا التي يبلغ عددها 159 مسجدا.
 
والحقيقة هي أن الجهات التي تتزعم الحرب ضد الإسلام، تتعامى وتتجاهل عن واقع بلدانها، حيث لم تعد النصرانية تجذب إليها الناس في الغرب، فقد خسرت الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانية، في ألمانيا لوحدها ما يزيد عن 6 ملايين عضو من المنتسبين إليها بعد رفض ملايين الألمان استقطاع الضريبة الخاصة من رواتبهم لصالح الكنيسة وهي 1 % .
 
وقد تقدم ملايين الأشخاص بطلبات لشطب أسمائهم من سجلات الكنيسة. وأشارت صحيفة "دير شبيغل" التي أوردت النبأ في إحدى مقالاتها مؤخرا إلى أن "الكنيسة الكاثوليكية خسرت منذ التسعينات أكثر من مليوني عضو بينما خسرت الكنيسة البروتستانتينية أكثر من 4 ملايين عضو "ويعزو البعض ذلك لأسباب اقتصادية إضافة لسريان روح عدم الثقة في الكنيسة التي تستغل أموال الأعضاء لمساومة المحرومين في العالم على حياتهم وصحتهم ومعيشتهم وعملهم وتستخدم الواجهة الإنسانية لإرغام المضطرين لاعتناق النصرانية للحصول على رغيف الخبر أو جرعة الدواء أو العمل وغير ذلك . ومن ذلك استغلال النساء والاطفال في أماكن الحروب والكوارث الطبيعية سواء في افريقيا ( دور الكنيسة في مذابح رواندا ) وآسيا أو طالبي اللجوء في أوربا ذاتها ، فتقدم لهم الخدمات مقابل تخليهم عن معتقداتهم و ثقافاتهم ، واستخدام الحاجة وليس القناعة ، ومخاطبة البطون وليس العقول وهو ما دفع الكثير من النصارى أنفسهم للبحث عن طريق آخر للخلاص غير الكنيسة وتعاليمها الطلاسمية التي لا تقبل الجدل النقاش.
 
وقد دفع انخفاض ميزانيات الكنائس في ألمانيا إلى تخلي عدد من الكهنة عن وظيفتهم وهو ما يكشف عن الخلل الكبير في بنية الكنيسة. ليس ذلك فحسب بل إن الكنائس تحولت إلى مكاتب ومصارف وصالات لعروض الأزياء ومطاعم، وبالطبع من يقبض الثمن هم الكهنة.
 
وفي هامبورغ تحولت كنيسة القديس ستفابوس التي اشتراها أحد الطهاة المشهورين في المدينة رغم معارضة عدد الكنسيين إلى مطعم. وهناك كنائس يتم تاجيرها لاجراء الحفالات الموسيقية والمعارض والاعلانات الهابطة كما حدث في برلين حيث علقت صور نساء شبه عاريات وصورة كلادويا شيفرعلى إحدى قباب الكنائس لمدة اسبوع كامل.
 
فاقد الشئ لا يعطيه:
 زيارة بابا الفاتيكان لن تغير كثيرا في موقف الناس من الكنيسة، ففي العصور الوسطى كانت رمزا للانغلاق ومحاربة العلم، وفي القرن العشرين والواحد والعشرين رمزا للرذيلة؛ فبعد فضائح الاعتداءات الجنسية على الأطفال، طفت من القرب من حضيرة الفاتيكان فضائح جديدة، قساوسة يعاشرون نساء أناس فتحوا لهم أبواب منازلهم واستأمنوهم على نسائهم لأن الواحد منهم تقمص لقب (الأب) ولكن (الأب) لم يكن أبا لا حقيقة ولا مجازا وإنما خائن وغادر وغريم في السر.
 
ومن ذلك قصة ( الأب ) أنجيلو دانيال ( 39 سنة ) الذي كان صديقا لأحدهم وكان يستشيره في أمور الدين ويدخل المنازل بدون أي حرج وفي الأخير وجده أحدهم في فراش نومه مع زوجته، وهي قصص تطفح بها الصحف الايطالية يوميا تقريبا عن (حراس المسيحية في الغرب) بينما فاقد الشيء لا يعطيه.
 
وكان ذلك مدعاة لتفكير مغاير لدى بعض من يحترمون أنفسهم، فقد تمرد عدد من القساوسة الكاثوليك على تقاليد الكنيسة، وأنهوا حياة الكبت الجنسي بإعلان زواجهم وترك حياة العزوبية والتبتل المغشوش، الذي أوقع المئات منهم في جرائم الشذوذ الجنسي والزنا السري، لكن الفاتيكان أعلن حرمانهم، والذي يمثل عملية تكفير للقساوسة المتمردين.
 
ومن بين الذين أعلنوا زواجهم الكاردينال، كلاوديو هومس، البرازيلي الذي عينه بابا الفاتيكان رئيسا لمجمع الكهنة مؤخرا، لكن طرد و حرمان عدد من زملائه جعله يتراجع عن تصريحاته و يؤكد في بيان نشرته وسائل الإعلام الايطالية أن مسألة إلغاء "عزوبة" الكهنة " ليست مطروحة حاليا على جدول أعمال السلطات الكنسية ".
 
وكان قد ذكر في مقابلة أجرتها معه صحيفة برازيلية، وأثارت هزة داخل الكنيسة، أن عزوبة الكهنة " ليست دوغما، عقيدة راسخة" ، بل مجرد "قاعدة تنظيمية"، وأن الكنيسة "ليست مؤسسة جامدة لذا فإن عليها أن تناقش الموضوع وتعيد طرحه مجددا".
 
وهذه المرة الأولى التي يطرح فيها قضية زواج القساوسة الكاثوليك، من قبل مسئول في الفاتيكان، حيث عين "هومس" مؤخرا من قبل بابا الفاتيكان "بندكتس السادس عشر" رئيسا لمجمع الكهنة، وهو كبير أساقفة مدينة ساو باولو في البرازيل أكبر بلد كاثوليكي في العالم. ومعروف عن هومس توجهه الليبرالي القريب من تيار لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية.
 
من جهته قال رئيس " جمعية الكهنة العمال المتزوجين" جوزبي سيروني، معلقا على أقوال الكاردينال، بأنها "تصريحات مبدئية، لن تسهم في أي تغييرات فعلية، فمعروف أن واجب العزوبة قانون كنسي وليس دوغما وبالتالي يمكن تغييره"، علما أن الفاتيكان قد جدد تأكيده رسميا لهذا القانون يوم 16 نوفمبر الماضي.
 
 وقد تزايد الحديث عن المسألة خاصة إثر زواج الأسقف الزامبي عمانوئيل ميلينغو بالكورية ماريا سونغ، وتأسيسه مؤخرا جمعية للكهنة المتزوجين في نيويورك، وقيامه برسامة أساقفة متزوجين من دون إذن بابوي، مما حدا بالفاتيكان إلى حرمانه "تكفيره وطرده" من الكنيسة.
 
إن الإسلام هو الخلاص الوحيد في الدنيا والآخرة للغرب والشرق على حد سواء.