احترقت الصناديق التي أدلى فيها بعض العراقيين بأصواتهم خلال انتخابات البرلمان، وجاءت عملية حرق الأصوات بعدما انتقل موقف من شاركوا فى الانتخابات أنفسهم من حالة التشكيك فى الاجراءات والنتائج، إلى عملية صراعية خطيرة تطورت عبر مجلس النواب، فأطاحت بهيئة أو سدنة المفوضية العليا للانتخابات، وقررت إعادة العد والفرز يدويًا، وجاء حرق الأصوات ليؤجج الشعور بصحة ما قيل حول تزوير الانتخابات، وليحول جهود ودور اللاعبين فى داخل العملية السياسية للاحتلال إلى معول هدم يعمل لجر المجتمع العراقي ليكون وقودًا لصراعهم المتوحش ضد بعضهم البعض.
وفى زاوية النظر المباشر للحدث والدخان يتصاعد، يمكن القول بأن ما جرى ويجرى ليس إلا استكمالًا لحالة الصراع الهمجي بين أطراف العملية السياسية المتعاونين مع الاحتلالين (الأمريكي والإيراني) جراء خلافاتها على أنصبتهم من نهب ثروة العراق عبر وخلال الصعود على درجات سلم سلطة احتلال العراق، وإن الحال وصل الآن حد التهديد بعدم الاعتراف بالحكومة القادمة وباحتمالات اندلاع حرب أهلية.
وفيما يجرى تبادل الاتهامات والتهديدات بين المشاركين فى لعبة سلطة الاحتلال حد التهديد بالحرب الأهلية أو فراغ السلطة ليكون الحكم للميلشيات، فلا شك أن من فاز الآن هو من أخذ موقفًا رافضًا للمشاركة فى مهزلة الانتخابات والتصويت، وهو يرى نفسه – وهو محق- أنه أخذ الموقف الصحيح منذ البداية، وبالفعل فقد توسعت نتائج ما جرى، لتؤكد صحة هذا الموقف كليًا، إذ النتيجة الآن هي أبعد من واقعة الحرق في ذاتها، ذلك أن ما احترق حقيقة هو العملية السياسية وليس الصناديق، وما أنتجته عملية الحرق بعد التزوير وبعد وصول الحال حد إنهاء وجود ودور مفوضية الانتخابات وبعد التهديدات الجارية هو فتح الطريق لمجهول قادم، إذ هناك من يفتح الطريق لتطورات قادمة، يكشف عنها استباق عملية حرق الصناديق، بتفجير مستودعات سلاح الميلشيات التابعه لمقتدى الصدر الذى أدرك اللعبة الجارية فرفع شعار تسليم السلاح وحصر السلاح بيد الدولة.
الآن احترقت العملية السياسية تمامًا، فالاتهامات بالتزوير لم تأتِ من خارج المشاركين بل هي جرت ضد بعضهم البعض، ومفوضية الانتخابات كهيئة وأفراد باتت في عين الاتهام، وذلك يعنى أن المفوضية التي هي صاحبة تسكين المتعاونين مع الاحتلال فى أجهزة سلطة الاحتلال –تشريعية وتنفيذية- قد أطيح بها، بما يفتح الطريق لصراع عميق ومدمر.
هنا يمكن توجيه الأحداث من وضعية الاندفاع نحو تدمير أعمق للعراق – التي يندفع لها المشاركون في العملية السياسية - إلى وضعية الصراع ضد العملية السياسية للاحتلال من قبل الرافضين لها، صعودًا نحو تحقيق بناء سياسي وطني وإن طال وقت الصراع.
الأهم في قراءة المشهد الراهن هو أن الرافضين من الشعب للمشاركة فى العملية السياسية - وهم الأغلبية بحكم تدني نسبة المشاركة التى لم تتعدَّ (19%) من الناخبين- قد صاروا أكثر بصيرة فى رفض المشاركة مجددًا وفى الأغلب صار ممكنًا تطوير موقفهم من الامتناع عن المشاركة إلى الرفض القاطع للعملية السياسية برمتها، فيما المشاركون فيها صاروا فى وضع التفتت والهزيمة والانكسار يأكل بعضهم بعضًا ، والايام حبلى بتطورات خطرة فيما بينهم.
لقد أصبح المشاركون فى العملية كمن أوقع نفسه فى شرك، كلما تحرك ازداد إحكامًا عليه، وهم أمام خيارات تفجيرية للعملية السياسية الآن، وإذا كان محتملًا أن تتحرك قوى الاحتلال لإجبارهم على الوصول لتسوية هنا أو هناك على حساب شعب العراق ومصالحه؛ فمن المحتمل أن يطول وقت عدم اتفاقهم، كما يحتمل أن يدفع هذا الطرف أو ذاك إلى تفجير واسع يتحرك فيه من حالة الصراع داخل نخب الاحتلال إلى صراع الشارع سواء لرغبة طرف فى الحفاظ على مكاسبه المهدرة بالحريق أو لرغبة الفاعل فى تغيير قواعد اللعبة، أو لأن طرفي الاحتلال لن يجدوا لمصالحهم مخرجًا إلا بالضغط على زناد الأسلحة، وهنا يصبح من رفضوا المشاركة منذ البداية فى وضعية الإنقاذ الوطني أمام جمهور هو الأكثرية.
الآن يعلو السؤال الوطني البعيد عن أسئلة وألاعيب وتضاغطات وصراعات وحرائق المتعاونين مع الاحتلال؛ السؤال الوطني بات مطالبًا اليوم بإعادة طرح المضمون الوطني للبناء السياسي.
المصدر/ موقع الهيئة نت