كثرة الضحك.. وكثرة البكاء
19 ربيع الأول 1441
سعد العثمان

الضَّحِكُ يفيدُ الجسمَ والعقل، ويحقِّق السَّعادة والسَّلام النَّفسي، ويمنحك التَّجدد، ويقلِّل من الضُّغوط، ويحدُّ من ارتفاع ضغط الدَّم وأمراض القلب، ويزيد من قدرتك علي التَّأمل والاسترخاء، ويقوي جهاز المناعة ووسائل الدِّفاع الطَّبيعية الموجودة في الجسم، ويخفف من حدَّة الألم عن طريق رفع مستوى إفراز مادة الإندروفينس، ويفيد مرضى التهاب الشُّعب الهوائية، وأزمات الربو عن طريق رفع نسبة الأكسجين في الدم الذي يدخل للرئة، ويزيد من قدرتك على التحدُّث إلى الآخرين بلباقة، ويطور من شخصيتك وقدرتك علي القيادة، ويجعلك تبدو أكثر شباباً، وينمي روح المشاركة وروح العمل الجماعي، ويعطي الشَّخص الثِّقة بالنَّفس، ويقلل من الشَّخير لأنَّه يساعد على عدم ارتخاء عضلات الحنجرة، وينمي قدرة الشَّخص الإبداعية، ويزيد من مرونة أوعية القلب، ويرفع من روحك المعنوية، ويجعلك تفكِّر بشفافية، ويخرجك من دائرة الرُّوتين، وتتلألأ عينيك عندما تضحك، وتصبح أكثر وسامة، ويرفع من مستوى أدائك العقلي، ومن قدرتك على الاحتفاظ بالمعلومات لأطول فترة ممكنة، ويقوي الذَّاكرة، ويجدد الطَّاقة، ويحطِّم طبيعتك المتحفظة، ويقوي عضلات البطن، ويوازن بين كيمياء التوتر والضَّغط، ويذكِّرك دائماً بالصُّورة الأشمل والأعم في حياتك، أي تفكر وترسم لمستقبلك، وتتصل بالآخرين علي نحو أعمق.
 

والضَّحِك من خصائص الإنسان، فالحيوانات لا تضحك؛ لأنَّ الضَّحِك يأتي بعد نوع من الفهم والمعرفة لقول يسمعه، أو موقف يراه، فيضحك منه.

 

والإسلام دين الفطرة لا يتصور منه، أن يصادر نزوع الإنسان الفطري إلي الضَّحِك والانبساط، بل هو على العكس، يرحب بكل ما يجعل الحياة باسمة طيبة، ويحب للمسلم أن تكون شخصيته متفائلة باشَّة، ويكره الشَّخصية المكتئبة المتطيرة، التي لا تنظر إلي الحياة والنَّاس إلا من خلال منظار قاتم أسود.

 

وأسوة المسلمين في ذلك هو: رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان برغم همومه الكثيرة والمتنوعة، يمزح ولا يقول إلا حقًا، ويحيا مع أصحابه حياة فطرية عادية، يشاركهم في ضحكهم ولعبهم ومزاحهم، كما يشاركهم آلامهم وأحزانهم ومصائبهم، كأنَّه واحدٌ منهم.

 

وكان في بيته صلي الله عليه وسلم، يمازح زوجاته، ويداعبهن، ويستمع إلي أقاصيصهن، كما في حديث أم زرع الشَّهير في صحيح البخاري.
جاءت إليه امرأة عجوز تقول له: ادع الله أن يدخلني الجنَّة، فقال لها مازحاً:( يا أم فلان، إنَّ الجنَّة لا يدخلها عجوز ) فبكت المرأة حيث أخذت الكلام على ظاهره، فأفهمها: أنَّها حين تدخل الجنَّة لن تدخلها عجوزًا، بل شابَّة حسناء وتلا عليها قول الله تعالي في نساء الجنة: (إنا أنشأناهن إنشاء. فجعلناهن أبكارًا. عربًا أترابًا) الواقعة: 35-37. رواه الترمذي، وحسَّنه الألباني.

 

وجاء رجل يسأله أن يحمله على بعير، فقال له عليه الصلاة والسلام:( لا أحملك إلا على ولد الناقة ) فقال: يا رسول الله، وماذا أصنع بولد الناقة؟!. انصرف ذهنه إلي " الحويِّر" الصغير، فقال:( وهل تلد النَّاقة إلا النُّوق). رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.

 

وقال أنس رضي الله عنه: كان لأبي طلحة ابن يقال له: أبو عمير، وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم يأتيهم ويقول:( يا أبا عمير!!. ما فعل النغير؟)متفق عليه. لنغيرٍ كان يلعب به، وهو فرخ العصفور.

 

وكان صلي الله عليه وسلم يحبُّ إشاعة السُّرور والبهجة في حياة النَّاس، وخصوصًا في المناسبات مثل الأعياد والأعراس.
ولمَّا أنكر الصِّديق أبو بكر رضي الله عنه، غناء الجاريتين يوم العيد في بيت النَّبي صلى الله عليه وسلم، وانتهرهما، قال له:( دعهما يا أبا بكر، فإنَّها أيام عيد) وفي بعض الروايات:( حتى يعلم يهود أنَّ في ديننا فُسحة )متفق عليه.

 

وقد أذن للحبشة أن يلعبوا بحرابهم في مسجده، عليه الصَّلاة والسلام، في أحد أيام الأعياد، وكان يحرضهم ويقول:( دونكم يا بني أرفدة )متفق عليه.
وكان أصحاب النَّبي صلي الله عليه وسلم، ومن تبعهم بإحسان في خير قرون الأمة يضحكون ويمزحون، اقتداءً بنبيهم صلي الله عليه وسلم، واهتداء بهديه.

 

حتى إنَّ رجلاً مثل عمر بن الخطاب، على ما عُرِفَ عنه من الصَّرامة والشِّدة، يُروى عنه أنَّه مازح جارية له، فقال لها: خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام ! فلما رآها ابتأست من هذا القول، قال لها مبينًا: وهل خالق الكرام واللئام إلا الله عز وجل ؟؟.

 

ولكن!! حذَّر النَّبي صلى الله عليه وسلم من كثرة الضَّحِك؛ بقوله صلى الله عليه وسلم:( إياك وكثرة الضَّحِك، فإنه يميت القلب، ويذهب بنور الوجه )رواه أحمد وغيره، وصحَّحه الألباني.
والضَّحِك المذموم ما كان مصحوباً بصوت، ويسمى القهقهة، وذلك لما يترتب عليه من آثار سيئة، كموت القلب، وذهاب الهيبة، وضياع الوقت.

 

قال الإمام الماوردي في كتابه: " أدب الدنيا والدين ": وأما الضَّحِك فإن اعتياده، و الإكثار منه، شاغل عن النَّظر في الأمور المهمَّة، مذهل عن الفكر في النَّوائب الملمَّة، وليس لمن أكثر منه هيبة ولا وقار، ولا لمن وُسِمَ به خطر ولا مقدار،

 

 ورُوي عن ابن عباس في قوله تعالى:( مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا )الكهف: 49. إنَّ الصَّغيرة الضَّحِك.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من كثر ضحكه قلَّت هيبته.
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إذا ضحك العالم ضحكة، مجَّ من العلم مجَّةً.

 

خير الأمور أوسطها، وديننا دين الاعتدال والوسطية، وكل أمر إذا زاد عن حدِّه، انقلب إلى ضده، فما دام الضحك بقدر معقول، وفي حدود الاعتدال والتوازن، الذي تقبله الفطرة السليمة، ويرضاه العقل الرشيد، ويلائم المجتمع الإيجابي العامل، فهو مشروع ومندوب، وإلا فهو مذموم ومرذول، والإسلام يكره الغلو والإسراف في كل شيء، ولو في العبادة، فكيف باللهو والمرح ؟!.
 

ولهذا كان التوجيه النبوي:( ولا تكثر من الضَّحِك فإن كثرة الضَّحِك تميت القلب ) فالمنهي عنه هو الإكثار والمبالغة. وقد ورد عن علي رضي عنه قوله:( أعط الكلام من المزح، بمقدار ما تعطي الطعام من الملح ).
فالمبالغة في المزاح كالمماراة، كلتاهما تؤدي إلي إيغار الصدور.

 

وقال سعيد بن العاص لابنه:( اقتصد في مزاحك، فالإفراط فيه، يذهب البهاء، ويجرِّئ عليك السفهاء، وتركه يقبض المؤانسين، ويوحش المخالطين ).فليس الضَّحِك منهي عنه لذاته، ولكن!! لما يمكن أن يؤدي إلى نتائج، وأخلاق لا يرضاها الإسلام.

 

ومما يعين على التخفيف من الضحك أمران:
1- التَّأمُّل في ثماره ونتائجه السيئة، فأي ضرر أشد على الإنسان من موت قلبه الذي هو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله.

 

2- البُعد عن كل ما يكون سبباً في إثارته، كمجالسة البطالين الذين لا هم لهم إلا إضاعة الأوقات في الهذر والهزل.
 

وفقني الله وإياك للعلم النَّافع والعمل الصَّالح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.