حرية الاختيار.. بين نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار
22 جمادى الأول 1440
يحيى البوليني

يؤمن كل منا بأن الله سبحانه قد جمع في الجنة كل لذائذ الدنيا ومتعها على وجه لم تره عين , ففيها ما نعرف ومالا نعرف من أنواع النعيم , وهناك نعمة جعلها الله في الجنة لم يلتفت لها أكثرنا وهي التنعم بحرية الاختيار التي منحها الله لعباده في الجنة ليختاروا ما يشاءون من أنواع النعيم , فكانت تلك الحرية في ذاتها متعة أخرى تضاف إلى ما أعده الله لأوليائه في جنات النعيم , إنها حرية الأنفس الطاهرة التي لا تختار إلا مرضات الله سبحانه , فهي تتقلب في نعمة الله وتختار بين ما يحبه الله سبحانه

 

ففي القرآن الكريم تأتينا عدة آيات تكرر هذا المعنى وتلح عليه لتعطينا اليقين بتلك النعمة فقال سبحانه " لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا " وقال أيضا " لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ "

 

وجعل الله لهم إكراما لهم فوق منتهى آمالهم بان يعطيهم أكثر مما يتمنون فقال " لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ  " 
وكانت تلك النعمة – نعمة حرية الاختيار - بشرى للمؤمن يبشر بها في اللحظة التي تسبق خروج روحه من الدنيا حينما تأتيه الملائكة لتبشره وتثبته وتطمئنه , فقال سبحانه حكاية عن قول ملائكته  " نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ "

 

ولم تكن حرية الاختيار في المطعم والملبس والمتعة فقط بل جعلها الله سمة عامة في الجنة , فليس في الجنة قيد بطاعة مامور بها - فاليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولاعمل -  , حتى التسبيح فيها لن يكون عناء فسيكون مثل التنفس , ففي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : أَهْلُ الْجَنَّةِ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ ، وَالتَّحْمِيدَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفْسَ " .

 

وجعل الله للجنة - بكل ما فيها من اتساع -  أبوابا , ولكنه سبحانه ما أغلق تلك الأبواب عليهم لكي لا يشعروا بأي ضيق من الحبس مع كل هذا الاتساع , فالنفس البشرية لا تحب ولا تستريح مع غلق الأبواب عليها مهما كانت الدور متسعة , وتكره أن تكون مضطرة للبقاء في مكان مهما كان حسنا فقال الله سبحانه وهو الأعلم بما يسعد ويريح خلقه " جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ " 
ومع كثرة أيضا وسائل تعذيب أهل النار من الحر والنار والسلاسل والأغلال إلا أن الله سبحانه قد عذبهم بحرمانهم من الحرية فلا يستطيعون الخروج منها , فوصف أبوابها ربنا سبحانه بقوله " إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ " .

 

وصار الخروج هو أعظم أمانيهم حينما يتضرعون لربهم فيقولون " قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ " 
لكن الله قد حكم عليهم بعدم الخروج منها وعدم الموت ولا اختيار لهم في ذلك فقال سبحانه " كذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ "

 

ولم يحرمهم ربنا من حرية الاختيار فقط بل حرمهم من الحرية في التحدث إليه فحينما ينادون " ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون "  فيسكت عنهم مدة ثم يرد عليهم ويقول : " اخسئوا فيها ولا تكلمون " .

 

فلا حرية ولا سماح بحديث ولا رجاء ولا بكاء ولا شيئ مسموحا به في نار جهنم للعصاة في مقابل منح كل الحرية للمتنعمين في الجنة لاختيار ما يشاءون من النعيم حتى لا تصيبهم الملالة طبع بني آدم ولا يبغون عن الجنة حولا .

 

وختاما فمن عجائب فعل الطغاة في الدنيا أنهم يحرمون العباد من دخول جنة الدنيا بسلبهم لحرية شعوبهم في الاختيار في أي شيئ ويفرضون إرادتهم على إرادات الشعوب ويعتبرون شعوبهم ملكا لهم يتصرفون فيهم كما يشاءون , وأيضا يدخلونهم نار الدنيا بتكميم أفواههم وتقييد حريتهم وغلق كل المنافذ عليهم , ولكن إرادة الله غالبة والنصر صبر ساعة ودولة الحق ستدحر دولة الباطل إلى قيام الساعة .