كثيراً ما يتردد في الأوساط الإصلاحية الحديث عن ضرورة أن يصبح الداعية قدوة للآخرين من حوله يستقون من محياه الخير بمجرد أن يروه، يتأسون به في خصال الخير الظاهرة التي يؤديها أمامهم، وكثيراً أيضاً ما يتعاظم النظر إلى هذا التأثير إلى الحد الذي يخرج به عن نطاق "العفوية" إلى تعمد تصنع القدوة ابتغاء حث الناس على الخير.
قليل من ذلك حسن، وهو من قبل تشجيع الناس على توسم خطوات الصالحين، كمن يتصدق في العلن حثاً لأقرانه على الصدقة أو ما نحوه، وكثيره مهلكٌ حين يصبح سجية وخلقاً ملازماً في العلن مفارقاً لصاحبه في السر، فيصبح حبيباً للناس مثلاً "مظهراً" للاهتمام بهم ومحبتهم والحرص عليهم، وخاشعاً في العلن ذاهلاً في الخلوة، متحلياً بجميل الأخلاق أمام أتباعه متنكراً لها عند غيرهم أو في مواطن "إجازة القدوة"!
لا شك عندي في النوايا الحسنة الأولية التي دفعت بعضهم أن يتصور نفسه قدوة وأن يستحث الناس بأفعاله على الاقتداء به، لكن تلك النوايا أبداً ليست كافية لوضع الأتباع على الجادة، ولا تحقيق النجاة لصاحبها من التعرض إلى مواطن الفتن أو التردي في دركاتها، مهما ظن في النهاية أنه يتصنع القدوة تحقيقاً لهدف نبيل، وأن ذهاب تأثيرها في الناس عائد إلى عيوب وخلل لدى الآخرين دونه، وأن الأثر السلبي الذي يتبدى من صنيعه ليس مسؤولاً عنه، وأن المقتدين هم الذين لا يحسنون الاقتداء!..
ولعل بعضهم يسأل نفسه مراراً كلما تصنع للناس البكاء في الصلاة لماذا المصلون لا تؤثر فيهم طريقتي "الخاشعة" في القراءة، ولماذا لا يذرفون الدموع ما داموا يتخيلون أن صوتي صوت باكٍ؟ ولماذا لا تؤثر في الناس كلماتي المنمقة التي أنظمها كحبات الخرز، ولا يستجيش صوتي الهادر وأوداجي المنتفخة مشاعر الجالسين.. لماذا الآثار ضعيفة، والانفضاض غالب، والتراجعات هي السمة السائدة؟
كلا الطرفين مسؤول عن النتيجة، متصنع القدوة، والباحث عنها في غير محلها، ودونه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي ينبغي أن تتوجه له الأعين بداية ونهاية.. وتتوكد أكثر في النهاية حينما تندر القدوات الربانية وتغوص، ويطفو الزبد..
إن علينا أن نتهم ذواتنا في كل سبيل؛ فلا مراء أن "الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً"، ومحال أن تفرز القدوة المصنوعة تأثيراً ذا بال، أما تلك الأصيلة الحقيقية، فيجري الله على يديها الخير مدراراً، قال جعفر بن زيد : خرجنا في غزاة وفي الجيش صلة بن أشيم، فنزل الناس عند العتمة فقلت: لأرمقن عمله الليلة، فدخل غيضة ودخلت في أثره فقام يصلي وجاء الأسد حتى دنا منه وصعدت أنا في شجرة، قال: فتراه التفت أو عدَّه جروا حتى سجد فقلت: الآن يفترسه، فجلس ثم سلم فقال: أيها السبع إن كنت أمرت بشيء فافعل وإلا فاطلب الرزق من مكان آخر، فولى الأسد وإن له لزئيرا تصدع منه الجبال، فلما كان عند الصباح جلس فحمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، أو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة. ثم رجع إلى الجيش فأصبح كأنه بات على الحشا، وأصبحت وبي من الفترة شيء الله به عليم. قال: وذهبت بغلته بثقلها فقال: اللهم إني أسألك أن ترد علي بغلتي بثقلها، فجاءت حتى قامت بين يديه، قال: فلما التقينا العدو حمل هو وهشام بن عامر فصنعا بهم طعنا وضربا، فقال العدو: رجلان من العرب صنعا بنا هذا فكيف لو قاتلونا كلهم؟ أعطوا المسلمين حاجتهم - يعني انزلوا على حكمهم..(1)
إنه صلة، صلة الليل والنهار، السر والعلن، الوضوح والسريرة، الظاهر والمخبوء؛ فثم إذن يقبل الله الطيب من القول والعمل.. إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن ظن بعضنا بالله الظنون، واصطنع قدوة شكلية، فتلك هي الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها والقفز عليها، لا صلاح دون صلاح القلب، قلب المرء وقلب الأمة.
--------------------------------------
(1) انظر : الطبقات الكبرى لابن سعد (7-134 ) , و الإصابة في تمييز الصحابة (6 – 543 )