القاعدة الخامسة والعشرون: الإنفاقُ في حدودِ الاستطاعةِ
12 ربيع الثاني 1440
أ. د . ناصر بن سليمان العمر

قال الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7].
هذهِ القاعدةُ لو سُلَّم لها فإنها تعالج كثيرًا مِنَ المشكلاتِ الأُسْريَّةِ، وتُزيلُ كثيرًا مِنْ أسبابِ عدمِ الاستقرارِ في البيوتِ، إذْ إنَّ مِنْ أكثرِ أسبابِ عدمِ الاستقرارِ ووجودِ الشِّجارِ والخِلافِ في البيوتِ هوَ عدمُ العمل بهذهِ القاعدةِ، حيثُ تُطالِبُ الزوجةُ زوجَها بأكثرَ مِنْ طاقتِه وقدرتِهِ، فإنَّه إنْ استجابَ لها وتحمَّلَ مِنَ الديونِ ما تحمَّلَ حتَّى أثقلتْهُ، تحوَّلتْ حياتُه إلَى جحيمٍ بسببِ مُطالباتِ أصحابِ الدَّينِ وكثرةِ تفكيرِهِ في سبيلِ الخلاصِ، فالدَّينُ كما يقولونَ: همٌّ بالليلِ وذلٌّ بالنَّهارِ، ولهذَا تعوَّذَ منهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأرشدَ أمتَه إلَى التعوُّذِ منْهُ. فإنْ وَقَعَ ذلكَ رجَعَ الرجلُ باللَّومِ علَى زوجتِه وعَدَّها سببَ ما هوَ فيهِ مِنْ بلاءٍ، لمطالبتِها بأمورٍ لا يَقدِرُ عليها، فيَحدُثُ الخِصامُ والشِّقاقُ ثُمَّ قدْ يقعُ الفِراقُ كمَا نرَى ونسمعُ كثيرًا. وفي المقابلِ إنْ رَفضَ الزوجُ طلباتِها تبرَّمتْ مِنَ الحياةِ التي تَعِيشُها، وجَعَلتْ هذا الرفضَ سببًا للشِّقاقِ والخلافِ والشجارِ.

 

أمَّا الآيةُ الكريمةُ، فإنَّها ترْسُمُ السبيلَ القويمَ للإنفاقِ، وتضعُه في نصابه الصحيح، فعمومها تَدخُل فيه نفقتُه علَى البيتِ والزوجةِ والأولادِ.
 

إنَّ مِنْ أسبابِ مُطالبةِ المرأةِ زوجَها فوقَ طاقتِه، مراعاتها أحوال قرابات أو جارات! تُريدُ مِنْ زوجِها أنْ يُنفِقَ كما يُنفقُ الأغنياءُ، وأحيانًا قدْ تكونُ قدرةُ الزوجِ محدودةً {قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} وأزواجُ أخواتِها أو جاراتها مِنَ الأغنياءِ الأثرياءِ، فتضغَطُ علَى زوجِها تُريدُ مثلَ أَخَواتِها، فإنْ كانَ لأختِها بيتٌ أو قصرٌ وهيَ وزوجُها يَسْكُنَانِ شقةً بالإيجارِ، فإنَّها تضغطُ عليه تُريد مثلَ مَا لأختِها، أوْ إن كانَ لدَى أختِها سيارةٌ وسائقٌ وخادمٌ، طالبتْ زوجَها بمثلِ ذلكَ، بينما قدْ تكونُ سيارتُه بالتقسيطِ! فالمطالبات والحال كهذه خَلَلٌ كبيرٌ، عاقبته وخيمة! تأثم بها، وربما تؤثمه! بل ربما تدخله السجن! والذي لها هو أن تُطالبَه بما يَقدِرُ عليه مِنَ النفقةِ بالمعروفِ.
 

إنَّ مسألةَ الإنفاقِ يحْكُمُها العُرفُ، والعُرفُ أن يُنفِقَ كلُّ إنسانٍ بقدْرِ أشباهه في المكانة والاستطاعة، فلا يكلف الفقير ومتوسط الدخل نفقة الأغنياء! ولا يجوز للغني أن يقتر فينفق نفقة الفقراء {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}، فعلَى الزوجِ أنْ يُنفِقَ علَى زوجتِه وأسرتِه بمقدارِ إمكاناتِهِ دونَ إسرافٍ، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141].
 

أما إذا كانَ الزوجُ يَملِكُ وَيقدِرُ ومِنْ ثَمَّ قتَّر على زوجتِه وأولادِه، فهذا خَللٌ كبيرٌ أيضًا، إذْ كمَا أنَّ على المرأةِ أنْ تُراعِي زوجَها في قدراتِه، فعليهِ هو أيضًا أن ينفقَ مما أنعم الله به عليه دونَ إسرافٍ أو تقتيرٍ {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]، وكما أن الإسراف آفة فالتقتير مثلها! وبعضَ الأزواجِ له سعة قد بسط له في الرزق ومعَ ذلكَ يُقتِّرُ على زوجتِهِ وأولاده، وفي هذا البابِ أمثلةٌ يَنْدَى لها الجبينُ:
 

فهذهِ زوجةٌ تُقْسِمُ أنَّهُ قدْ تمرُّ سنةٌ كاملةٌ دونَ أنْ يُنفِقَ عليها زوجُها، وأخرى تقولُ إنَّها هيَ التي تُنفِقُ علَى البيتِ رغمَ أنَّه قادرٌ مستطيعٌ، بلْ هناكَ رجالٌ أغنياءٌ وزوجاتُهم يطلُبْنَ الصدقاتِ مِنَ النَّاسِ، فتأتي إحدَاهُنَّ إلى جيرانِها وتقولُ: لا تَرمُوا شيئًا، أعْطُونا إياهُ نُصْلِحْه ونَلبَسْه أو نَبِعْه لنُنفقَ على أنفسِنا! بعضُهن تشتغلُ في البيتِ جاهدةً معَ المطاعمِ، تَكِدُّ الليلَ والنَّهارَ، لا لشيءٍ إلا مِنْ أجلِ أنْ تُنفِقَ على نَفسِها وأولادِها؛ لأنَّ زوجَها بخيلٌ شحيحٌ، فنقولُ لكلِّ هؤلاءِ: هذا ظلمٌ لا يَجوزُ، {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}، فكما أنَّ هذهِ الآيةَ تُعطي حقًا للزوجِ، وتُنبِّه الزوجةَ ألا تطلبَ منْهُ أكثرَ مما يَقدِرُ عليه، فكذلكَ هِي تُعطي للزوجةِ والأولادِ حقًا بأنْ يُنفِقَ عليهمْ مما آتاه اللهُ ويوسِّعَ عليهم كما وُسِّعَ عليه {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}، أما إذا قُدِرَ عليه رزقُه {فَلۡیُنفِقۡ مِمَّاۤ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ}.
 

إنَّ مِنْ أسبابِ استقرارِ الحياةِ الزوجيةِ أنْ يعملَ الزوجانِ بهذه القاعدةِ ويُذكِّرَ كلٌّ منهما صاحبَه بها إنْ ذَهِلَ عنها، فإذا طلبتِ الزوجةُ أكبرَ منْ طاقتِه يُذكِّرُها بقوله تعالى: ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَیۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡیُنفِقۡ مِمَّاۤ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ﴾، وإذا كانَ قادرًا وقَتَّرَ في الإنفاقِ تُذكِّرُه بأنَّه لا يَنبغي لهُ ذلكَ {فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ}.
 

مسألةٌ مهمةٌ:
هلْ للزوجةِ أنْ تأخذَ مِنْ مالِ زوجِها الشحيحِ دونَ إذنِه لتُنفقَ على نفسِها وولدِها؟
قدْ ثبتَ أنَّ هندًا زوجةَ أبي سفيانَ رضي الله عنها شَكَتْ مِنْ شُحِّهِ وأنَّه لا يُنفقُ النفقةَ التامَّةَ، فأذِنَ لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ تأخذَ مِنْ مالِه ما يَكفيها وولدَها بالمعروفِ دونَ علمِهِ وإذنِهِ، وقدِ اختُلِفَ في هذا الإذنِ؛ هلْ هوَ مِنْ بابِ الفُتيا فتعم كل من كانت تلك حالها أو هو من باب القَضاءِ؛ فتفتقر من عداها إلى حكم قاض؟

 

ومهما يكنْ مِنْ أمرٍ فلا بدَّ مِنَ التنبهِ لأمورٍ:
الأولُ: أنْ يكونَ الأخذُ بالمعروفِ لا أنْ تُطْلِقَ الزوجةُ يدَها وتأخذَ ما تشاءُ مِنْ مالِه.

 

الثاني: أنَّ هذا يكونُ في حالِ شُحِّ الزوجِ وتَقتيرِه، أمَّا إنْ كانَ يُنفقُ مِنْ سَعته فلا ينبغي ذلكَ، إلا إنْ عَلمتِ الزوجةُ أنَّ زوْجَها يَسمحُ ولا يُمانِعُ، إذ قدْ يَترَتْبُ على أخذِها بدونِ علمِه مَا لا تُحمَدُ عُقْباه، وأنا أعرفُ رجلًا كريمًا علِمَ أنَّ زوجتَه أخذتْ مِنْ مالِه بدونِ إذنِه، فسألَها: هلْ طلبتِ ولم أعطِك؟ قالت: لا ولكنني احتجتُ المالَ، فطلَّقها بسببِ ذلكَ.
 

الثالث: إذا كانَ أخذُ المرأةِ مِنْ هذا المالِ دونَ أنْ يَشْعرَ الزوجُ، وكانَ علمُه لاحقًا لنْ يُؤثِّرَ على الحياةِ الزوجيةِ فهنا نقولُ خُذي ما يكفيكِ وولدَكِ بالمعروفِ، أمَّا إذَا كانَ سَيترتبُ على أخذِ المالِ مفسدةٌ أعظمُ، مثلُ شِقاقٍ يُحيلُ الحياةَ الزوجيةَ جحيمًا أو طلاقًا، فالعاقلةُ لا تفعلُ ذلكَ بلْ تتحمَّلُ الشُحَّ والجُوعَ على طلاقٍ وفِراقٍ؛ لأنَّه عندَ تزاحمِ المفاسدِ يُراعَى أنَّ المفسدةَ الكبرى تُدفَعُ بالصُّغرى، ولا شكَّ أنَّ المفسدةَ الكبرى هي الخِلافُ والشِّقاقُ والفِراقُ والطلاقُ. ويمكنُ في هذهِ الحالِ أنْ تُوسِّطَ المرأةُ بعضَ قرابتِها أو قرابةِ الزوجِ أو بعضَ مَنْ يأخذُ بقولِهم، فإنْ أعيتَها الحيلُ ولم تعُدْ تَقْدِرُ على تأمينِ حاجاتِها، فيُمكنُها أنْ تلجأَ للقضاءِ لتطلبَ حقَّها مِنَ النفقةِ لها ولأولادِها، وإنْ كنتُ لا أميلُ إلى ذلكَ، فالخلاف شر، ولكن بعض الدواء قد لا يكون منه بد وهو مر! وآخر الدواء الكي.

* للاطلاع على القاعدة الرابعة والعشرين..
الرضَا بقدرِ اللهِ مفتاحُ الخيرٍ

 

* للاطلاع على القاعدة السادسة والعشرين..
لا يَحِلُّ مال المسلمِ إلا عنْ طيبِ نفسٍ