الهدي النبوي في التربية ... (5) ( الحوار - العقوبة )
19 ذو القعدة 1439
سليمان بن جاسر الجاسر
  • استخدام الحوار والنقاش:

إن خير مثال على ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم مع الأنصار في غزوة حنين بعد قسمته للغنائم، فقد أعطى صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم وترك الأنصار، فبلغه أنهم وجدوا في أنفسهم، فدعاهم صلى الله عليه وسلم ، وكان بينهم وبينه هذا الحوار الذي يرويه عبد الله بن زيد رضي الله عنه فيقول:

" لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئًا، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس

 فخطبهم فقال: «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالًا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟» كلما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أَمنّ، قال: «ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله ؟» قال: كلما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أمنَّ قال: «لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس واديًا وشعبًا لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»(1 )

 

 فحاورهم عليه الصلاة والسلام حتى أخرج مكنون نفوسهم، ثم أخرجه وأزاله بما وضع مكانه من تقوية الصلة بالله ورسوله، وطلب ما عنده.

 

  •  الإغلاظ والعقوبة:

لقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم في التربية أن يغلظ العقوبة ـ أحيانًا ـ على من وقع في خطأ أو يعاقبه: فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبًا منه يومئذ فقال: «أيها الناس، إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز، فإن فيهم المريض والكبير وذا الحاجة»( 2).

 

وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن اللقطة فقال: «اعرف وكاءها ـ أو قال: وعاءها وعفاصها ـ ثم عَرفها سنة، ثم استمتع بها، فإن جاء ربها فأدها إليه» قال: فضالة الإبل؟ فغضب حتى احمرت وجنتاه ـ أو قال: احمر وجهه ـ فقال: «وما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وترعى الشجر، فذرها حتى يلقاها ربها» قال: فضالة الغنم؟ قال: «لك أو لأخيك أو للذئب»( 3).

 

إلا أن ذلك لم يكن هديه الراتب صلى الله عليه وسلم فقد كان الرفق هو الهدي الراتب له صلى الله عليه وسلم ، لكن حين يقتضي المقام الإغلاظ فإنه صلى الله عليه وسلم يغلظ، ويجعل كل خلق في مقامه المناسب له.

 

وقد بوب البخاري ـ رحمه الله ـ في صحيحه على هذين الحديثين فقال: باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره، والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها غضبه صلى الله عليه وسلم على من أكل بشماله، ودعاؤه عليه وعلى الرجل الذي لبس خاتم الذهب.

 

  •  الهجر:

استعمل النبي صلى الله عليه وسلم أسلوب الهجر في مواقف مشهورة حين دعت الحاجة إليه، فحين تخلف كعب بن مالك رضي الله عنه وصاحباه عن غزوة تبوك، هجرهم صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأمر ألا يكلمهم أحد أكثر من شهر حتى تاب الله تبارك وتعالى عليهم .

 

وهذا الأسلوب له أثر واضح على البعض، فإنه يحمله على التفكر في السبب الذي أفضى إلى هذا الهجران فيرجع وينتفع.

 

إلا أن استخدام هذا الأسلوب لم يكن هديًا دائمًا له صلى الله عليه وسلم ، ومناط ذلك هو تحقيقه للمصلحة، فمتى كان في الهجر مصلحة وردع للمهجور شرع، ومتى كان فيه مفسدة وصد له أو زيادة في طغيانه حُرِّم هجره.

-------

( 1) رواه البخاري (4330)، ومسلم (1061).

( 2) رواه البخاري (90)، ومسلم (466).

( 3) رواه البخاري (90)، ومسلم (1722).