الميزان في المنهج التربوي الرشيد
24 جمادى الثانية 1439
د. خالد رُوشه

الهدف من التربية الإسلامية هو إنشاء المؤمن الصالح المصلح ، وبناء شخصيته الإيجابية المنجزة ، وتوجيه تفكيره الحكيم الرشيد ..

 

وهذا الهدف المركب يسير بخطى متوازنة في المنهج التربوي الإسامي ، لا يطغى فيه جانب على جانب ولا تغطي فيه ناحية على غيرها ، ولايتقدم فيه فرع على اصل .

 

بل معرفة الاصول ، وبناء الاسس ، والتعلم المتدرج من صغار العلم إلى كباره ، وإقامة العدل والميزان بين النواحي البنائية في الشخصية .

 

وقد تفرد الإسلام عن المناهج كلها فعالج النفس البشرية جسما وعقلا وروحا ممتزجة في كيان واحد فاستغل بذلك كل طاقات الإنسان فلم يهدر منها واحدة يمكن أن يُنتفع بها في عمارة الأرض .

 

 

فقد نظر للإنسان على أنه كل شامل لابد من النهوض به بكل مكوناته لا بتخصيص لبعضها , كما نظر إليه باعتباره فرد في مجتمع وهو لبنة مكونة له , كما نظر إليه على اعتبار أنه هو الصائغ لعناصر ما يحيطه من ماديات الحياة فلزم عندئذ تكون تربيته متنوعة شاملة متوازنة ..

 

 

 

يقول الغزالي في إحيائه : " إن المعرفة المتعددة في النواحي أفضل من المعرفة المحدودة ؛ ذلك أن العلوم المختلفة يعين بعضها بعضا كما أن الاختصاص الضيق في الابتداء يتسبب في التعصب لعلوم دون الأخرى "

 

 

إن استغلال الإنسان لطاقاته جميعا بشكل متوازن يحدث توازنا في داخل النفس وفي واقع الحياة سواء .

 

 فالتوازن في نظر تربية النبوة يشمل كل نشاط الإنسان , توازن بين ماديات الإنسان ومعنوياته , بين الإيمان بالواقع المحسوس والإيمان بالغيب الذي لا تدركه الحياة ، بين النزعة الفردية والنزعة الاجتماعية , بين النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية و في كل شئ في الحياة .

 

 ثم توازن بين الجد والمرح والسعي والراحة , فإذا بقى الإنسان ملتزما جانب الجد فإن طاقته تقل ، يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نلتقط أنفاسنا ونعطي بعض الراحة لأنفسنا فيقول : " يا حنظلة ولكن ساعة وساعة " .

 

 إن اختلال التوازن التربوي كان وراء العديد من الانحرافات التي لحقت بالمجتمع الإسلامي فالفلاسفة جنحوا بقواهم العقلية وذهبوا بالإسلام بعيدا عن طبيعته وبالمقابل كانت هناك فئات جنحت بقواها الروحية بعيدا عن معنى الإسلام وواقعيته , ولكن الإسلام يقدر العقل والفكر ولايهمل الروح والنفس .

 

 لذلك فإن خاصية التوازن تقتضي ممن يشرفون على التربية إن يأخذوا في الاعتبار قدرات الناس الجسمية والعقلية والروحية ، فلا يهتمون بإبراز ناحية على حساب الأخرى فيحصل الخلل التربوي وما يستتبعه من القلق النفسي والاضطراب السلوكي .

 

 

ولقد رأينا من المربين من يكيل العلوم لطلبته كيلا ويهمل في أمرهم بالمحاسبة والمراقبة وحسن الخلق , وينسى أن يتعاهد قلوبهم ويرقق نفوسهم , فيخرج طلبته قساة عبوسين منطوين عن الناس فلا ينفعون بعلمهم الخلق ولا ينشرون به الهدى و بل يتلقونه بقساوة قلب وسوء مثل .

 

 كما رأينا من المربين من ُيفهم اتباعه أن واجبهم الدعوي يحتم عليهم البقاء وسط الناس ليل نهار حتى ولو أهملوا في الواجبات وتركوا نوافل العبادات , بل حتى لو أهملوا العلم الشرعي الأساسي , ولعمري إن كان المرء غافلا او جاهلا فكيف إذن يذكر الغافلين ويعلم الجاهلين ؟!

 

 إنه منهج متوازن لا يسبح في الخيال ولا يغرق في الواقع , وهو يتعامل مع المرء في حدود طاقته ويعرف مطالبه وضروراته .

 

 يعرف ضعفه إزاء المغريات فيأمره بالتقوى ويحثه على الصلاة بالليل وصدقة الخفاء وكثرة الأذكار كي يستقوى أمامها , ويدعوه إلى تجديد التوبة كلما سقط في معصية وذنب , ويعلم ضعفه إزاء التكاليف فيساير فطرته في واقعها ولا يفرض عليه من التكاليف ما ينوء به كاهله ويجعل التكليف الملزم في حدود الطاقة الممكنة .

 

 ولكنه مع ذلك لا يتركه لفطرته الضعيفة دون تقويم , بل يعلمه أن أساس الإسلام هو اليسر والتيسير وأن الُمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ..