كنت كثيرا ما تمنيت لقاء بعض أهل الحكمة الذين تتدفق الحكمة من بين كلماتهم , ويرون الواقع بمنظار مدرك متكامل , ويستشرفون العالم بفراسة المؤمن البصير , ثم إني أدركت أن هناك تلازما فريدا بين المتصفين بالحكمة والمتصفين بالرضا ..
ووجدت أنها حياة ربانية فريدة تلك التي يحياها القريبون من ربهم , يستعينون به في شتى شئون حياتهم , ويسلمون لقضائه , ويرضون بما يحصل لهم في دنياهم , ويقنعون بما آتاهم .. غير ناظرين لما في يد غيرهم , ويستغنون بالله عما في الدنيا من متاع , فتراهم سعداء قريري العين مطمئنين مهما أصابهم , غير متصارعين على ما يتصارع عليه الناس , همهم رضوان الله , ويقينهم هو الرضا به سبحانه , فيفيض عليهم ببركاته التي لايعلمها إلا هو , ويحيطهم برعايته وعونه ويؤنسهم بمعيته وفضله فيرون الكون بمنظار متجرد شفاف ويدركون حقائق الأشياء كما هي على الحقيقة بلا زيف ولا خداع ..
والمؤمن لا ينال الرضا ولا يحصل له إلا إذا سبقه التوكل الكامل في قلبه, ودرجة الرضا درجة عزيزة غالية ولذلك لم يوجبها الله على عباده, لكن ندبهم إليها واستحبها منهم وأثنى على أهلها, قال ابن القيم :" أخبر سبحانه أن ثواب الرضا أن يرضى الله عنهم, وهو أعظم وأكبر وأجل من الجنان وما فيها , فهناك رضا من الله قبل رضا العبد أوجب له أن يرضى, ورضا بعده هو ثمرة رضاه, ولذا كان الرضا باب الله الأعظم, وجنة الدنيا, ومستراح العارفين, وحياة المحبين, ونعيم العابدين, وقرة عيون المشتاقين"
ان المؤمن إذا حقق الرضا ارتفع جزعه في أي حكم كان أو قضاء, بل استقبل كل قضاء بقدره ووضعه موضعه وتعامل معه بما يناسبه ..
والمؤمن الصالح اذا استقر الرضا في قلبه, سكنت الطمأنينة في جوارحه وجنانه وبرد قلبه واطمأن, وفر منه السخط والضيق والضجر, بل إن الرضا يُنزل السكينة على أهل الإيمان, ومن نزلت عليه السكينة استقام عمله وصلح باله , ونبعت الحكمة من تحت لسانه وتفجرت من بين طيات حروفه وكلماته .