حوار مع الشيخ ناصر العمر حول الأسئلة والتعليقات على بيان الجزائر
18 ربيع الثاني 1425

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فنظراً لورود عدد من الرسائل المتعلقة بمقال فضيلة الشيخ ناصر العمر حول أحداث الجزائر، فقد ارتأى التحرير أن يعقد هذا الحوار مع فضيلته؛ ليطرح عليه أهم ما ورد في تلك الرسائل..

يتساءل البعض لماذا هذا البيان في مثل هذا الوقت؟ أحداث الجزائر مستعرة قرابة ثنتي عشرة سنة، فأين كان علماء المملكة وما موقع دعاتها منها؟ ولماذا لم تتكلموا إلاّ بعد أن بدأت الأحداث تقع في السعودية؟
بالنسبة للسؤال الأول، فالقول بأنني لم أتحدث عن أحداث الجزائر إلا أخيراً هذا قول غير صحيح، فقد تحدثت عن أحداث الجزائر عام 1412هـ، وتحدثت عنها عام ألف وأربعمائة وثلاثة عشر، وقد تحدثت عنها في مناسبات متعددة غير ما ذكر.
بل دعني أوضح حقيقة، وهي أن هذا البيان بنصه قد كتبته قبل عامين وتحديداً في آخر محرم من عام 1423هـ، أي: قبل أحداث التفجيرات التي وقعت في المملكة بأكثر من سنة، ولكنني أخرت إصداره لأسباب، من أبرزها: محاولات بعض المشايخ والعلماء دراسة الموضوع ومعالجته، فطولبت حينها بتأخير إصدار البيان، فاستجبت للإخوة وأخرته بناء على رغبتهم وانتظرت حتى استقرت الآراء.
ثم كأني بك تقول: أصدرت البيان عن الجزائر وأنت تقصد أحداث السعودية، وهذا كلام باطل أيضاً؛ لأني قد تكلمت في أحداث المملكة بوضوح تام حسب طاقتي وقدرتي، سواء من خلال البيانات التي صدرت، أو المحاضرات أو الدروس أو حتى بمقابلتي في قناة المجد قبل سنة كاملة، وبإمكان أي واحد أن يرجع إلى موقع المسلم ويراجع المقالات التي كتبتها، وسيجد أن حديثي عن أحداث السعودية لم يكن يحتاج إلى إشارة من بعيد أو إلى أن أتحدث عن الجزائر مورياً بها عن السعودية من باب إياك أعني فاسمعي يا جارة! فهذا كلام غير صحيح لم نسلكه ولم نلجأ إليه، وليس هناك مايضطرنا إليه، - وبحمد الله - حديثي عن أحداث السعودية واضح وصريح.
أما التساؤل عن علماء المملكة وأين هم قبل أعوام، فمرة أخرى أقول: اتهامهم بالبعد والانزواء عن هذه الأحداث قبل أحداث الرياض باطل، فقد تحدث علماء المملكة منذ أكثر من عشر سنوات، وهناك بيان صدر من هيئة كبار العلماء في 2/4/1419هـ، وهو بيان واضح وجلي وينص على أحداث الجزائر، أي: أنه صدر قبل أكثر من ست سنوات من الآن فإلقاء الكلام جزافاً، والقول: إن علماء المملكة ساكتون هذا كلام باطل، فلم تسكت لا هيئة كبار العلماء، ولم يسكت العلماء، والمحاضرات والدروس في هذا بينة واضحة، ولهذا فإني أنصح الذين يلقون بالكلام على عواهنه ألا يتحدثوا بما لم يبلغه علمهم، خاصة وأن التثبت ميسور برسالة إلكترونية أو مهاتفة ونحو ذلك، وأقول لعامة المسلمين: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" (الحجرات:6)، وأنا لا أتهم من رمانا بما ليس فينا بفسق، ولكن نقول: أخطأ ولم يتثبت، والتثبت قبل الحكم واجب، فسامحه الله وعفا عنه.

فضيلة الشيخ: بعض الرسائل التي وردتنا كررت أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فما مدى تصوركم للواقع الجزائري، وبخاصة في مثل هذه المسائل الكبيرة التي تحتاج إلى تصور دقق، هل أنتم على إلمام دقيق بواقع الناس هناك؟ فالدراية التامة شرط للإفتاء في مثل هذه المسائل، فماذا تقولون لمن يتساءل عن ذلك؟
نعم لا شك أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وفقه الواقع ومعرفة المفتي بما يفتي فيه أمر مطلوب شرعاً، وإلاّ كانت الفتوى فتوى بغير علم، وهذا من القول على الله بغير علم "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ" (الأعراف:33)، "وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ" (النحل:116)، هذا مقرر، ولي في ذلك رسالة بعنوان فقه الواقع، وهي منشورة بموقع المسلم فلتراجع.
وإذا كان الأمر كذلك، فالقول بأن العلماء والدعاة يلقون بالأقوال جزافاً دون علم بالواقع سوء ظن واتهام كبير وليس مع قائله سبيل "قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" (البقرة: من الآية111).
أما بالنسبة لي فحسبك أن تعلم أن علاقتي بالجزائر ليست وليدة اليوم أو الأمس، بل لها أكثر من عشرين عاماً، وقد قرأت بعض التعليقات التي أرسلتموها من بعض المنتديات، وأقول لمن علق سلباً: سامحكم الله، وإليكم بعض الحقائق؛ في عام 1406هـ ذهبت إلى الجزائر أي قبل أحداث الجزائر بست سنوات، وعندما رأيت الواقع وإقبال الناس على الله - جل وعلا - سررت سروراً عظيماً بهذا الإقبال، وقد بقيت في الجزائر قرابة أسبوعين أستاذاً زائراً في جامعة قسطنطينة، وهي جامعة الأمير عبدالقادر، فأقول: ذهلت من قوة الصحوة التي رأيتها، إلاّ أنني خشيت عليها من أن تقاد إلى مهالك، فألقيت هناك محاضرة بعنوان "العلم ضرورة شرعية" أردت أن أبين فيها أهمية توجه الناس إلى العلم الشرعي، وأنهم بذلك يحصنون أنفسهم من الانحراف والانزلاق، ثم طبعت هذه المحاضرة في رسالة عام 1410هـ، أي قبل أحداث الجزائر بسنتين، وكتبت فيها ما ملخصه: "قد زرت بلداً عربياً إسلامياً، ورأيت فيه صحوة عظيمة، ولكني خشيت أن تجر إلى مهالك ومزالق فألقيت فيهم هذه المحاضرة" فقد كنت أخشى الأحداث قبل وقوعها نتيجة قربي منها، ونتيجة بينات ظهرت لي من خلال مخالطة الطلاب في الجامعة والدعاة في الجزائر، ومع كل أسف ما خشيته وقع.
وأفيد الإخوة كذلك بأنه كانت هناك اتصالات بالجزائر مستمرة مع الدعاة والعلماء، بل بعضهم يأتي إليّ في بيتي ويشكون سوء الأوضاع، وألتقي مع بعضهم في مكة وأسمع آراءهم، فاتصالي كان مستمراً معهم، فدعوى عدم علمي بمشكلة الجزائر وواقعها دعوى باطلة، بل إن صلتي مستمرة إلى وقت إصدار ذلك المقال وبعد إصداره، قبل كتابة البيان وبعد كتابته.
فحاشا لله أن أفعل ما رماني به البعض، ومن أطلق هذا الكلام -هداه الله- هو الذي لا يعلم هذه الحقائق، ولم يكن يلزم في إصداري لبيان أن أقول: إنني قلت وفعلت ولكن أحببت أن أوضح هذه المسألة حتى لا يكون هناك لبس يقع فيه بعض الإخوة بحسن نية.
فإذن أقول معرفتي بهذا الواقع كانت - والحمد لله - عن قرب وعن وضوح - وحسبنا الله ونعم الوكيل-، وتعرضت لهذا في عدد من دروسي ومحاضرتي، فسامح الله أولئك الإخوة الذين افتروا هذه الفرية، وقالوا هذا القول.

فضيلة الشيخ: بعضهم يقول: إن الجهاد في الجزائر فرض فرضه الواقع على الإسلاميين، فكيف تقيمون هذه المقولة؟
أولاً: أقول كثير من الدعاة وطلاب العلم في الجزائر منحازون عن القتال، بل يدينونه من أول ما وقع ولم يكونوا مجمعين عليه.
ثم ما هو الذي فرضه؟ أعرف أن الحكومة الجزائرية كانت ظالمة، وكانت طاغية وقد صادرت الانتخابات، ولكن لم يكن هذا مبرراً لرفع السلاح، فإن قالوا: ليس المبرر مصادرة الانتخابات ولكنه واقع الناس والمعاصي المتفشية فتلك مصيبة وضلال في المنهج، فالمعاصي والمنكرات لاتحارب بمنكر أكبر، وإن قالوا: واقع الحاكم، فقد تكلم أهل العلم قديماً وحديثاً في النهي عن الدخول في الفتن بسبب ذلك، قال الإمام النووي: "وقال العلماء وسبب عدم الانعزال وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه".
فالعلماء تحدثوا عن هذا الجانب وبينوه، وما كتبته بينت فيه وجهة نظري، وهو في النهاية اجتهاد إن أخذ به الإخوة فجزاهم الله خيراً، وإن لم يأخذوا فحسبي أن بينت ما أعتقد صوابه.
وأخيراً أذكر من يزعم أن الواقع فرض عليه ذلك بحال المسلمين في مكة لم ينطلق المسلمون إلى قتال قريش، ولم يقولوا: فُرض علينا هذا الأمر، مع أن قريشاً استفزت المسلمين مراراً وعذبتهم ولكن مع ذلك كانوا يؤمرون بالصبر والصفح، وما ذاك إلاّ من مراعاة التشريع لتلك المرحلة واعتبارها، فكنت أتمنى أن يعي الإخوة ذلك، وألا يدخلوا في هذه الدوامة، وتلك الفتنة التي نجح أصحاب الأغراض السيئة في استدراجهم إليها - نسأل الله لهم السلامة-.

ولكن هؤلاء يقولون: إن الحاكم طاغوت كافر فيجب قتاله، وإذا هجم العدو تعين قتاله؟
أولاً: حكم الكفر والإسلام حكم عظيم ليس لكل إنسان، ولو اعتبر حكم كل إنسان لكثرت الحروب؛ فهذا يسفك دم هذا لكونه يراه قد أتى مكفراً، وهكذا تعم الفوضى.
والواجب أن نرجع في هذه الأحكام إلى أهل العلم الراسخين، خاصة وأن التكفير موضوع ليس بالأمر السهل والخطأ فيه قد يذهب رقاباً وأعراضاً وأموالاً.
ومع أني لست ممن يرى تعطيل هذا الحكم العظيم، ولكن تنزيل هذا الحكم على الواقع لا يترك لكل طالب علم ولا ينبغي أن يتحدث فيه عامة من يخوضون الفتن باسم الدين، بل الواجب أن يرجع فيه إلى العلماء الراسخين، فإذا ثبت لديهم كفر إنسان حاكم أو غيره بينوا هم ذلك للأمة، وعندها يتبع الناس أولي الأمر من العلماء، أما أن يقلد طالب علم طويلب علم، ويتتابع الناس في الفتن فهذا ما لا ينبغي أن يقبل بحال، وبهذه المناسبة فإني أنصح بالرجوع إلى بيان هيئة كبار العلماء الذي أشرت إليه قبل قليل في 2/4/1419هـ الدورة التاسعة والأربعين، ففيه بيان يعالج هذه القضية.
وإجمالاً قد يكون الفعل تراه كفراً ولا يسلم لك من تكفره أو من معه بأنه كفر مخرج عن الملة تبعاً لبعض أهل العلم، وقد يسلم لك بأنه كذلك، ولكن تقوم شبهة أو مانع يمنع إنزال الحكم، أو ربما انتفى شرط من شروط التكفير، وقد تتوافر الشروط وتزول الموانع فيكون عندها الفاعل كافراً مرتداً، ولكن تمنع الخروج عليه أسباب أخرى.
والعلماء تحدثوا عن هذا وبيّنوا أن القدرة شرط من شروط الخروج على الحاكم الكافر؛ لما يترتب على ذلك من مفاسد عظيمة، ولو نظرنا إلى ما حدث في الجزائر لرأينا المفاسد بيِّنة واضحة، فقَتْل النفوس المعصومة مفسدة، وإهدار الأموال المصونة مفسدة، وانتهاك الأعراض المحرمة مفسدة، بل كل هذه ضروريات جاء الدين بحفظها.
فموضوع الخروج على الحاكم وإن كان كافراً موضوع خطير، وقد خرج بعض المسلمين في بعض بلاد الله على بعض الحكام الذين كانوا يدينون بدين البعث، غير أنهم لم يحسبوا العواقب ولم يقدروا المصالح والمفاسد، فكانت مفاسد عظيمة ودماء ولم يحقق من خرج شيئاً بل تقوى الحاكم وأضعفوا الإسلام وأهله وسجن الدعاة وأوذوا.
ومن تأمل في أحداث بعض الدول العربية التي وقعت قبل سنوات يجد مصداق ذلك.
فهذه الدعوى تحتاج إلى تأمل وإعادة نظر، خاصة وأن المفاسد واضحة وحسبك بمائة وخمسين ألف قتيل منذ بدء الأحداث في الجزائر ولا أحمل الدعاة في الجزائر مسؤولية مباشرة قتلهم، فنحن نعرف أن ممن وقع في هذا الأمر بعض المحسوبين على الحكومة الجزائرية، والذي يطلع على كتاب الحرب القذرة لأحد الضباط الجزائريين يدرك هذه الحقيقة، فقد بين كيف كانت عصابات من الجيش الجزائري تقتل الناس لمصالح بعض الفئات، ولكن لو أن الدعاة انعزلوا عن هذه الفتنة لما تحملوا آثارها وما يجري في بلاد الجزائر، ولما فتح المجال لبعض من يفتي فتاوى عظيمة الشأن في شأن الذرية والنسوان، ونحوه، مع أن الخطأ من الدعاة أيضاً واقع وهذه نتيجة طبيعية لأي قتال لم تتمايز فيه الصفوف.

ولكن –أحسن الله إليكم- بعضهم يذكر أن وجوب الخروج يكون بغير شرط أو قيد، بغض النظر عن المفاسد، ولو كان المقاتل فرداً واحداً وينقلون بعض الكلام لأهل العلم في ذلك.
هذا كلام غير دقيق، فالحاكم الكافر وإن تحقق كفره لا يجب الخروج عليه إلاّ إذا ثبتت القدرة أو الاستطاعة على تغيره بمفسدة لا تتعدى مفسدة بقائه، فإن الشريعة جاء بتحصيل المصالح وتميمها، ومنع المفاسد وتقليلها، ومن أهم ما جاءت الشريعة بحفظه الضروريات الخمس، والتي منها النفس والمال والعرض، فهذه جميعاً لابد أن تعتبر عند المقايسة بين المفاسد، وخاصة إن كانت المفاسد متحققة والمصالح متوهمة.
أما الزعم بجواز الخروج بغير قيد أو شرط فمحل نظر، فمن قواعد الشريعة المقررة قول الله – تعالى-: "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ..." (البقرة: من الآية286) الآية. فالقدرة شرط لكل تكليف، ومن زعم بأن شرط القدرة على خلع الحاكم هنا ساقط فليأت بدليل على قوله.
وقد نص أهل العلم على أن الخروج على الحاكم وإن بدر منه كفر بواح منوط بالقدرة، قال ابن حجر عند كلامه على الحديث "إلاّ أن تروا كفراً...": "الذي يظهر حمل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة في الولاية فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح في الولاية نازعه في المعصية بأن ينكر عليه برفق ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف ومحل ذلك إذا كان قادراً، والله أعلم ".
وقال الإمام النووي: "قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل..." ثم بين محل ذلك بقوله: "ووجب على المسلمين القيام عليه، وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك ".
وقال في الشوكاني في النيل: "قال في الفتح، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها ".
وقال الشيخ عبدالعزيز بن باز: "ولا يجوز الخروج على ولاة الأمور وشق العصا إلا إذا وجد منهم كفر بواح عند الخارجين عليه من الله برهان، ويستطيعون بخروجهم أن ينفعوا المسلمين، وأن يزيلوا الظلم، وأن يقيموا دولة صالحة، أما إذا كانوا لا يستطيعون فليس لهم الخروج ولو رأوا كفراً بواحاً؛ لأن خروجهم يضر الناس ويفسد الأمة ويوجب الفتنة والقتل بغير الحق- ولكن إذا كانت عندهم القدرة والقوة على أن يزيلوا هذا الوالي الكافر فليزيلوه وليضعوا مكانه والياً صالحاً ينفذ أمر الله، فعليهم ذلك إذا وجدوا كفراً بواحاً عندهم من الله فيه برهان، وعندهم قدرة على نصر الحق وإيجاد البديل الصالح وتنفيذ الحق".

والشاهد: أن مدعي إهدار شرط القدرة على الخلع عليه الدليل، وإلاّ فلا يلتفت إلى كلامه، ولايحل تقليده وخاصة في مثل هذا الأمر العظيم.

ومع ذلك فكلام أهل العلم ينقله البعض أحياناً مستدلاً به في غير موضعه –مع أنه ليس بدليل- وهؤلاء غالباً يقع الخلل عندهم من جهة فقه واقع أولئك العلماء فينزل ما في واقعهم على ما لايشبه واقعهم، وعامة ما ذكروه بعد التأمل يقع في قتال تمايزت فيه الصفوف وتمحض فيه الكفر وعسكره، فمثلاً من يستدل بنقول لشيخ الإسلام فهم منها ما أشرت إليه في السؤال ينسى أو يتناسى ما نقل عن شيخ الإسلام أيام التتار، ومن ذلك محاورته المشهورة لملكهم، مع أنك تجده يفتي بوجوب قتالهم في محل آخر، وكل ذلك مراعاة للحال ومايترتب على الفعل من مفسدة ومصلحة، وكذلك مراعاة للقدرة، فمراعاة واقع كلام أهل العلم مطلب مهم لفهمه على وجهه.

ومع ذلك نقول: لو تمحض عسكر الكفر واستبان ولم يختلط الأمر فمقاتل هؤلاء بين إحدى حسنين ظفر أو شهادة، وهذا ما لم يتحقق في الجزائر إلاّ على رأي من يكفر سائر العسكر ومن انتمى للدولة والعامة الذين لم يتبين إيمانهم، ولاشك أن هذا غلو لايوافق عليه من ذهب إليه، بل هو منكر يجب إنكاره.

السؤال الأخير بعضهم يقول: الدعوة أثبتت فشلها عبر عقود مضت، فماذا نصنع، هل نقول لظالم طاغية: اتق الله ونكتفي بالبلاغ؟ وهل ينصلح حال المسلمين والإسلام بمثل ذلك في ظل واقع كثير من حكام المسلمين اليوم؟ أليست هذه سذاجة؟
الذي قال هذا الكلام لا يعرف المنهج الحق، منهج الرسل، فالله - سبحانه وتعالى - يقول: "فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ" (النحل: من الآية35)، ويقول - سبحانه وتعالى-: "إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ" (الشورى: من الآية48)، "وَإِن مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ" (الرعد: من الآية40)، أكثر الأنبياء لم يقاتلوا أقوامهم إنما بلّغوهم ونصحوهم ودعوهم ثم اعتزلوهم فأهلكهم الله - جل وعلا - فالذي يطالع سير الأنبياء والمرسلين يجد تكذيب الملأ وإيذائهم للأنبياء والمرسلين، ومع ذلك فلم يُرَق دم واحد في أكثر دعوات الرسل، ولكن حل بالمكذبين العقاب من قِبَل الله - جل وعلا - انظر إلى قوم نوح، انظر إلى قوم هود، إلى قوم صالح، إلى قوم لوط، إلى فرعون، وغيرهم كثير من الأنبياء لم يقاتل.
محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول له ربه – عز وجل-: "وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ" (الرعد: من الآية40).
ونحن لاننكر فرض القتال دفاعاً وطلباً في شريعتنا، ولكن المراد بيان أن القتال ليس مقصوداً لذاته، وإنما لإيصال رسالة الله ودينه إلى من حيل بينهم وبينها، ولأجل أن تكون كلمة الله هي العليا، ومن الخلل أن نُسفِّه المقصد الذي يراد من وراء القتال ونعده سذاجة، فهذا ولاشك انحراف في الفهم عظيم.
ولهذا ما قاتل النبي - صلى الله عليه وسلم - العرب إلاّ بعد أن بيّن ودعا ونصح، ثم بعد أن قامت دولة الإسلام في المدينة وتميّز المؤمنون، أما قبل قيام الدولة فما قاتل، بل كان يؤمر بالصفح والصبر والإعراض حتى عن سب آلهتهم؛ لما يترتب على ذلك من مفسدة أعظم، وهي سب الله - جل وعلا - كما قال الله – تعالى-: "وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ" (الأنعام: من الآية108).
فالتساهل في القول بأنه ما ينفع البلاغ ولا ينفع النصح خروج عن المنهج الشرعي "وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" (الأعراف:164).
وبعد هذا كله من ذا الذي يتألا على الله! إني أخشى أن يكون قائل هذا كمن قال: والله لا يغفر الله لفلان، ومن تأمل سورة يونس - عليه السلام - بدت له الحقيقة.

وفي الختام أذكر قضية مهمة جداً، في عام 1412هـ كتبت رسالة بعنوان (حقيقة الانتصار)، وهذه الرسالة من أعز وأفضل الرسائل التي بيّنت فيها المنهج الذي أدين الله به من قبل ومن بعد، فبعد صدورها بأسابيع قليلة اتصل بي أحد الإخوة من الجزائر - جزاه الله خيراً - وكنت في مكة في رمضان 1412هـ، وقال لي: أنت ألّفت هذه الرسالة لنا؟ فقلت: هي لكم ولغيركم، فذكر لي أنها تنطبق على واقع الجزائر.
وقد بيّنت أن هناك خطأً في فهم منهج "حقيقة الانتصار" الذي هو تبليغ رسالة الله - جل وعلا - وهذا هو أعظم الانتصارات، أما استجابة الناس فليست لنا.
وقلت: هناك من المتعجلين الذين ليس لديهم صبر وتحمل فيتعجلون النتائج ويدخلون في مواجهات مع أعداء الله، وبالمقابل هناك متنازلون - مع كل أسف - يتنازلون عن دين الله، ويضعف مفهومهم للولاء والبراء، وهناك أيضاً يائسون بائسون.
والواجب الحق هو ألا نسلك أي مسلك من هذه المسالك؛ لا منهج المتعجلين ولا منهج المتنازلين المتساهلين ولا منهج اليائسين القانطين، وإنما علينا أن نبلّغ رسالة الله - جل وعلا - وأن نصبر ونصابر على ما نلقاه في سبيل الله - جل وعلا - من أذى وبلاء هذا هو المنهج الحق الذي جاءت به نصوص الكتاب وينته السنة القولية والعملية.
وشكرت الأخ على اتصاله، وفهمت أن الرسالة قد بلغتهم بعد صدور الكتاب بأيام - فالحمد لله-.
وما أنصح به الإخوة الآن في الجزائر، وبخاصة من طرح هذا السؤال أن يقرؤوا مثل هذه الرسالة (حقيقة الانتصار) وأن يعودوا إلى المنهج الحق في معالجة القضايا، أما استمرار الدماء والفتن والفوضى كما هو واقع فلاطائل من ورائه، وكما ترون أكثر من اثني عشر عاماً والنتيجة من سيئ إلى أسوأ هذا ما أراه.
فأقول مرة أخرى للإخوة في الجزائر وفي غيرها من الدول: إن هذا المنهج الذي يسلكونه منهج له عواقب وخيمة، ولم تجن منه الأمة إلا الويلات في عصورها المتأخرة.
أما الجهاد، فلا شك أننا والله نقول به وننصره، فالجهاد حق ماض إلى قيام الساعة "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين يقاتلون في سبيل الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله" فالجهاد ماض حتى ينزل المسيح عيسى بن مريم فيذبح الخنزير ويكسر الصليب ويقتل الدجال، ونحن على ثقة من أنه لن يعود للأمة عزها ولا نصرها ولا سؤددها إلا بالجهاد في سبيل الله، وأقول: إن الجهاد جهاد دفع وجهاد طلب، أما جهاد الطلب فله شروطه وضوابطه التي ذكرها أهل العلم، وأما جهاد الدفع فقائم في فلسطين، وفي العراق، وفي الشيشان، وفي أفغانستان، وفي الفلبين، وفي كشمير، فكل تلك مواطن جهاد لا نشك فيه، بل يجب دعم المجاهدين فيها، أما ما يحدث في داخل بلاد المسلمين من احتراب لم تتميز فيها الصفوف فهو ولا شك فتنة وبلاء ينبغي أن نفرّق بينها وبين الجهاد الحقيقي في ميادينه المشروعة.
وفي النهاية هذا اجتهاد مني فإن كنت أصبت فمن الله وحده وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، وأسأل الله لي وللإخوة في كل مكان الثبات على الحق، وأقول لمن راسل أو اعترض –وقد قرأت شيئاً من ذلك- أنتم إخوتنا وأحبتنا - فجزاكم الله خيراً - على هذه المداخلات، وإن كنت أعتب على البعض في بعض الأساليب التي استخدموها، وهي لاتبنغي ولاتليق بطالب العلم، فالغمز أو اللمز ليس منهج الدعاة إلى الله - جل وعلا - ومن حقكم أن تخطّئوا ما قلت، من حقكم أن تردوا عليّ فكلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولست بالمعصوم، وأعوذ بالله أن أدعي ذلك وخطئي أعرفه، وما لا أعرفه أحتاج إلى أن أعرفه من الآخرين، أسأل الله أن يوفقنا إياكم لأحسن الأخلاق ولحسن انتقاء العبارات والألفاظ، كما أسأله أن يسامحنا وإياكم، وأن يهدينا جميعاً إلى صراطه المستقيم.هذا والله أعلم وأحكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.