دندنة على باب معلم ..
27 ذو الحجه 1427

الغاية المثلي من العلم هو العمل به مما يجعل ثمرته تعود على الفرد والمجتمع سواء كان ذلك في حياة الفرد أو بعد مماته فعن أبي قتادة رضي الله عن قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " خير ما يخَّلفُ الرجل من بعده ثلاث : ولد يدعو له وصدقة تجري يبلغه أجرها وعلم يُعمل به من بعده " صدق رسول الله ، رواه ابن ماجه وصححه المنذري والألباني .
وعن سهل بن معاذ بن انس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من عّلم علما فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل شئ " رواه ابن ماجه وحسنه الألباني .
يقول ابن القيم " لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب ، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين "
فالأصل في العلم هو العمل وبالتالي فالعلم وسيلة وليس غاية يقول الشاطبي " العلم وسيلة من الوسائل ليس مقصودا لنفسه من حيث النظر الشرعي وإنما هو وسيلة إلى العمل ، وكل ما ورد في فضل العلم فإنما هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل به، فلم يثبت فضل العلم مطلقا ، بل من حيث التوسل به إلى العمل " وبالتالي فانه لابد للعلم أن يكون له ثمرة تكليفية ويوضح الشاطبي "أن عامة المشتغلين بالعلوم التي تتعلق بها ثمرة تكليفية تدخل عليها الفتنة والخروج عن الصراط المستقيم ويثور بينهم الخلاف والنزاع المؤدي إلى التقاطع والتدابر والتعصب حتى تفرقوا شيعا ، وإذا فعلوا ذلك خرجوا عن السنة ولم يكن أصل التفرق إلا بهذا السبب ، حيث تركوا الاقتصار من العلم على ما يعني وخرجوا إلى ما لا يعني ، فذلك فتنة على المتعلم والعالم وتعطيل للزمان في غير تحصيل "
وبالتالي فإن كل علم لم يثمر عملاً – في القلب أو الجوارح – فإنما يلزم صاحبه الحجة أمام الله عز وجل والتي لن يستطيع التوصل إليها لعدم وجود أصل لها في الشرع . يقول الشاطبي " كل علم لا يفيد عملا فليس في الشرع ما يدل على استحسانه ولو كان له غاية أخرى شرعية لكان مستحسنا شرعا " ويعلق محقق كتاب الموافقات على كلام الشاطبي بقوله : " أن مقصود الشاطبي هي العلوم النظرية أما العلوم العملية كالهندسة والطب ليست داخلة في كلامه لأنها علوم يتوقف عليها حفظ مقاصد الشره في الضروريات والحاجيات والمصالح المرسلة تشملها وهي وسيلة إلى التعبد لان التعبد هو تصرف العبد في شئون دنياه وأخراه بما يقيم مصالحهما بحيث يجري في ذلك على مقتضى ما رسم له مولاه لا على مقتضى هواه "وهنا يتضح كلام أبي حامد الغزالي حيث يقول: "العلوم شرعية وغير شرعية ... وأعني بالشرعية ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب ولا التجربة مثل الطب ولا السماع مثل اللغة والعلوم الشرعية فهي محمودة كلها والعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود والى ما هو مذموم والى ما هو مباح ... فالمحمود هو ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية والى ما هو فضيلة وليس بفرضة "
ويوضح الشاطبي أنه " لما ثبت أن العلم المعتبر شرعاً هو ما نبني عليه عمل صار ذلك منحصراً فيما دلت عليه الأدلة الشرعية فما اقتضته فهو العلم الذي طُلب من المكلف أن يعلمه في الجملة وهذا ظاهر ، غير أن الشأن إنما هو في حصر الأدلة الشرعية فإذا انحصرت انحصرت مدارك العلم الشرعي والشرع قد جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها فما خرج عن ذلك قد يظن أنه على خلاف ذلك "
وهنا قاعدة جليلة فالعلم النافع الصحيح مضبوط ومتوقف على الأدلة الشرعية والأدلة الشرعية يتم استنباطها والتوصل لأحكامها من خلال الاجتهاد والذي له شروط وضعها العلماء لاستنباط الأحكام التي تضبط النظام الإنساني نفسياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وقضائياً وذلك بضوابط شرعية تبعاً لمراد الشارع لا لهوى الناظر وبالتالي يخرج المظنون عن دائرة المعلوم لأن الأصل في مراد الشارع أنه قطعي مكتمل والمجتهد يستنبطه بالأدوات والمصطلحات الشرعية لا بغيرها من الوسائل والمصطلحات البشرية الوضعية ويطبقه المجتمع الإسلامي يقيناً دون إشراك للظنيات ، أما ما يتعلق بصلاح البدن جسدياً وعمارة الأرض فواضح اتفاق العلماء على فرضية خروج طائفة من أبناء الأمة لتعلم تلك الصناعات ولكن بقصد أصلي وهو سيادة الأمة ومن حيث هو وسيلة للتعبد لله مع المطالبة بتحصيل واستيعاب أحدث ما توصلت إليه الخبرة البشرية في تلك العلوم العملية وبما لا يخالف معلوماً من الدين بالضرورة وذلك باعتبار أنها علوم مشاع للبشرية جمعاء بخلاف غيرها من العلوم الظنية التي تتدخل فيما نظمته الشريعة للإنسان ومن هنا تتضح أهمية الثمرة التكليفية للعلم واعتبار العمل هو ثمرة العلم وتشديد الشرع على ذلك يقول تعالى " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " تلك الآيات التي نقل عنها ابن القيم رحمه الله كلام الشافعي رحمه الله حيث قال : قال الشافعي رضي الله عنه " لو فكر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم وبيان ذلك أن المراتب أربعة وباستكمالها يحصل للشخص عناية كاملة إحداهما : معرفة الحق والثانية عمله به والثالثة تعليمه من لا يحسنه والرابعة صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه .
فذكر تعالى – والكلام للشافعي – المراتب الأربعة في هذه السورة وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه مرتبة أخرى وتواصوا بالحق وصى بها بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات فهذه مرتبة رابعة وهذا نهاية الكمال فإن الكمال أن يكون الشخص كاملاً في نفسه مكملاً لغيره وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية فصلاح القوة العلمية بالإيمان وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات وتكميله غيره بتعليمه اياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل " انتهي
ولله در ابن الخطاب إذ يقول " إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة المنافق العليم . قالوا وكيف يكون منافقا عليما ؟ .... قال : عليم اللسان جاهل القلب والعمل ."
ومن هنا فإن المسلم مطالب من قبل الشرع بالبحث عن العلم النافع الصحيح فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " سلوا الله علماً نافعاً وتعوذوا بالله من علم لا ينفع " صدق رسول الله .. رواه ابن أبي شيبه وابن ماجه
وفي هذا الموضع يقول الغزالي " لا تكن بحاثاً عن علوم ذمها الشرع وزجر عنها ولازم الإقتداء بالصحابة رضي الله عنهم واقتصر على اتباع السنة فالسلامة في الإتباع والخطر في البحث عن الأشياء والاستقلال ولا تكثر اللجج برأيك ومعقولك ودليلك وبرهانك وزعمك أني أبحث عن الأشياء لأعرفها على ما هي عليه فأي ضرر في التفكير في العلم ؟ فإن ما يعود عليك من ضرره أكثر ، وكم من شئ تطلع عليه فيضرك إطلاعك عليه ضررا يكاد يهلكك في الآخرة إن لم يتدارك الله برحمته "
والذي يقع في هذه العلوم الضارة ويهديه الله ويكشف عنه غمامة التيه ويبدأ في تحصيل العلوم النافعة فإنه مكلف أولا بمهمة لا يستطيع القيام بها أحد إلا الشخص نفسه وضريبتها عالية لأنها قد تصطدم مع مكانة بلغها الشخص من خلال العلوم الضارة لكن هذه المهمة شرط هداية وضعه العلماء ومفاده تفريغ القلب من تلك العلوم وتهيئته لتعبئة العلم النافع يقول ابن القيم رحمه الله " قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده " ولا غضاضة في أن يبدأ العالم في التعلم من أول الطريق الصحيح ولنا في قصة سيدنا موسى عليه السلام والخضر العبرة والأسوة فضلاً عن الوعد اليقيني إذ يقول صلى الله عليه وسلم " من ترك شيئا لله عوضه الله خيراً منه " صدق رسول الله
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن هذا الشخص الذي أنعم الله عليه بنعمة الهداية يملك من الملكات والإمكانات التي تعينه على توضيح مضار العلم الفاسد عملاً بالآية الكريمة " ولتستبين سبيل المجرمين " الآية وفي ذلك يقول ابن القيم عليه رحمة الله :" الناس على أربع فرق :-
الأولى : من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علماً وعملاً وهؤلاء أعلم الخلق.
الثانية : من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر ولها أسلك .
الثالثة : من صرف عنايته إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل وإن لم يتصوره على التفصيل بل إذا سمع شيئاً مما خالف سبيل المؤمنين صرف سمعه عنه ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه وهو بمنزلة من سلمت نفسه من إرادة الشهوات فلم تخطر بقلبه ولم تدعه إليها نفسه بخلاف الفرقة الأولى فإنهم يعرفونها وتميل إليها نفوسهم ويجاهدون على تركها لله .
الرابعة : فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة وسبيل المؤمنين مجملة وهذا حال كثير ممن اعتني بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع فعرفها على التفصيل ولم يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بل عرفه معرفة مجملة وإن تفصلت له في بعض الأشياء ومن تأمل كتبهم رأى ذلك عياناً وكذلك من كان عارفاً بطرق الشر والظلم والفساد على التفصيل معرفة من أفنى عمره في تصرفها وسلوكها .
والمقصود أن الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتجتنب وتبغض كما يحب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك" .
ولله در سهل رحمه الله إذ يقول " العلم كله دنيا والآخرة العمل به والعمل كله هباء إلا الإخلاص والناس كلهم موتى إلا العلماء والعلماء سكارى إلا العاملين والعاملون كلهم مغرورون إلا المخلصين والمخلص على وجه حتى يدري ماذا يختم له به "
وهذا بدوره يسحبنا إلى الارتباط بين العلم والإخلاص يقول الشاطبي – عليه رحمة الله – "كل علم شرعي – مشروع – فطلب الشارع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى لا من جهة أخرى فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى فبالتبع والقصد الثاني لا بالقصد الأول" .
بمعنى أن كل طالب علم عليه أن يخلص نيته كاملة لله وأن يعتبر العلم الذي يطلبه هو وسيلة لعبادة ربه فإن أشرك في مقصده لطلب العلم غاية أخرى سقط المقصد الأول وبقي المقصد الآخر والذي هو في جميع الأحوال من مطالب الدنيا وشهوات النفس الإنسانية ... روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة " صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .... عرفها يعني ريحها "
وعن أبي هريرة أيضاً قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهدين في سبيل الله ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر في متاع غيره " صدق رسول الله ... رواه ابن ماجة والبيهقي .
ومن أهم المؤثرات في عدم الإخلاص هو الرياء الذي سئُل الشافعي – رحمه الله – عنه فقال " الرياء فتنة عقدها الهوى حيال أبصار قلوب العلماء فنظروا إليها بسوء اختيار النفوس فأحبطت أعمالهم "
وسوء اختيار النفوس الذي ذكره الشافعي يجعله إبليس ديدنا له فيقعد لطلبة العلم والعلماء حتى يقعوا في فخه فيخسرون وتحبط أعمالهم وفي ذلك يقول ابن الجوزي – رحمه الله – " لبس إبليس على الكاملين في العلوم فيسهرون ليلهم ويأبون نهارهم في تصانيف العلوم ويريهم إبليس أن المقصود نشر الدين ويكون مقصودهم الباطن انتشار الذكر وعلو الصيت والرسالة وطلب الرحلة من الآفاق إلى المصنف ، وينكشف هذا التلبيس بأنه لو انتفع بمصنفاته الناس من غير تردد إليه أو قُرئت على نظيره في العلم فرح بذلك إن كان مراده نشر العلم وقد قال بعض السلف – ما من علم علمته إلا أحببت أن يستفيد الناس من غير أن يُنسب إليّ- ومنهم من يفرح بكثرة الأتباع ويلبس عليه إبليس بأن هذا الفرح لكثرة طلاب العلم وإنما مراده كثرة الأصحاب واستطارة الذكر ومن ذلك العجب بكلماتهم وعلمهم ، وينكشف هذا التلبيس أنه لو انقطع بعضهم إلى غيره ممن هو أعلم منه ثقل ذلك عليه وما هذه صفة المخلص في التعليم لأن مثل المخلص مثل الأطباء الذين يداوون المرضى لله سبحانه وتعالى فإذا شفي بعض المرضى على يد طبيب فرح منهم فرح الآخر "
ويوضح الفقهاء أن من أسباب انتكاسة الأمة هو عدم إخلاص العلماء في رحلتهم العلمية بدءً من طلبه انتهاءً بتعليمه ومن ثم يكون الاهتمام بتحقيق غايات دنيوية يتساوى في حالتها تمكين الأمة مع عدمه بل في بعض الأحيان إذا تعارض الخاص مع العام يقدم الأول على أعناق الثاني ... يقول الشيخ مصطفى صبري – عليه رحمة الله – " الطائفة المتعلمة التي يكون مقصودها من طلب العلم الحصول على شهادة العلم نفسه ، إذا استفادوا بتلك الشهادة شيئا من الدنيا كالمال والجاه والشهرة كان ذلك شهادة على شهادتهم التي تحتاج إلى شهادة ... وهذه الطائفة لا يعنيهم الدين ولا صلته بالعلم ولا مبلغ هذا العلم من القوة والأهمية وهم الذين يكونون على كثرتهم وتجارتهم الرابحة رمزا لفقر البلاد وإفلاسها المعنويين "
العلم بين طالبه ومعلمه

أولا .. العلم وطالبه
طلب العلم شرف ما بعده شرف وقد أوضحت الشريعة السمحاء فضل طلب العلم والمرتبة التي يحصلها طالبه من جراء طلبه ففي الصحيحين من حدث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " صدق رسول الله
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله عليه وسلم " من سلك طريقا يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر " صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ... رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه وحسنه الألباني .
وعن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد متكئ على بُرد أحمر فقلت له : يا رسول الله إني جئت أطلب العلم فقال صلى الله عليه وسلم " مرحبا بطالب العلم إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها ثم يركب بعضهم بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب " صدق رسول الله رواه أحمد والطبراني وحسنه الألباني
وهناك أكثر من طريقة لطلب العلم حيث يوضح الشاطبي أن أخذ العلم عن أهله له طريقين :-
الطريق الأول : المشافهة وهي أنفع الطريقين وأسلمهما .
الطريق الثاني : مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين وهو أيضا نافع بشرطين :
أ‌- أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب ومعرفة اصطلاحات أهله ما يتم له به النظر في الكتب وذلك يحصل بالطريق الأول من مشافهة العلماء والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئا دون فتح العلماء .
ب‌- أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد فإنهم أقعد به من غيره من المتأخرين ".
وهذا الشرط الأخير عند الشاطبي قد يختلف في حالة العلوم العملية ذات الثمرة التكليفية كالطب والهندسة .
وهناك مجموعة من الخصائص والتنبيهات التي يرى العلماء وجوب توافرها في طالب العلم ومنها :
1- الاشتغال بطهارة الباطن والظاهر من شوائب المخالفات ، يقول الإمام الشافعي شكوت وكيع سوء حفظي ******** فأرشدني على ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ******** ونور الله لا يهدى لعاص
2- يقول الماوردي :" ينبغي لطالب العلم أن لا يتأخر في طلبه وينتهز الفرصة به فربما شح الزمان بما سمح وضن بما منح .
3-إخلاص النية لله .
4- حسن السؤال ... فهناك من يحرم العلم لعدم حسن سؤاله إما لأنه لا يسأل أو يسأل عن شئ وغيره أهم منه .
5- حسن الإنصات والاستماع كما قال ابن القيم .. فهناك من يحرم العلم لسوء إنصاته فيكون الكلام آثر عنده وأحب إليه من الإنصات ... وهي آفة تمنع علما كثيرا ولو كان حسن الفهم .
6- يطالبه الماوردي بأن يجعل ما من الله عليه من صحة القريحة وسرعة الخاطر مصروفا إلى علم ما يكون أنفاق خاطره فيه مذخورا ، وكد فكره فيه مشكورا . بمعنى أن يوجه طالب العلم طاقاته إلى العلم النافع الذي يحبه ثمرة تكليفية ينال بها الجزاء من الله سبحانه وتعالى ويعود نفعها على الأمة الإسلامية .
7-يقول ابن جماعة : " على طالب العلم أن يحذر في ابتداء أمره من الاشتغال في الاختلاف بين العلماء أو بين الناس مطلقا في العقليات والسمعيات فإنه يُحير الذهن ويدهش العقل .
8- توقير العلماء والتملق والتذلل للعالم لأن التملق للعالم يظهر مكنون علمه والتذلل له سبب لإدامة صبره . وبإظهار مكنونه تكون الفائدة وباستدامة صبره يكون الإكثار .
9-يقول العلماء لا تعرف العلم بالرجال لان من عرف العلم بالرجال حار في متاهات الضلال فاعرف الحق تعرف أهله إن كنت سالكا طريق .
ثانياً .. العلم والعالم
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسُلط على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها " صدق رسول الله .... أخرجه البخاري ومسلم .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " صدق رسول الله عليه وسلم .. متفق عليه
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري .
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " صدق رسول الله أخرجه ابن عدي والدارقطني .
يقول الشاطبي :" لابد في تحصيل العلم من الرجال وأصل هذا في الصحيح " أن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء " الحديث ، فإذا كان كذلك فالرجال هم مفاتحه بلا شك فإذا تقرر هذا فلا يؤخذ إلا من تحقق به.وهذا واضح في نفسه وهو أيضاً متفق عليه بين العقلاء ، إذ من شروطهم في العالم بأي علم اتفق:أن يكون عارفاً بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم قادراً على التعبير عن مقصوده فيه عارفاً بما يلزم عنه قائماً على دفع الشبه الواردة عليه فيه"
ومهمة العالم مهمة جليلة فهي قائمة على البذل فالعالم يجمع في بداية طلبه ليعطي في نهاية تحصيله ... يقول الغزالي في الإحياء " للإنسان في علمه أربعة أحوال كحاله في اقتناء الأموال : إذ لصاحب المال حال استفادة فيكون مكتسباً ، وحال ادخار لما اكتسبه فيكون غنياً عن السؤال وحال إنفاق على نفسه فيكون منتفعاً ، وحال بذل لغيره فيكون به سخياً متفضلاً، وهو أشرف أحواله ... فكذلك العلم يقتنى كما يقتنى المال فله حال طلب واكتساب وحال تحصيل يغني عن السؤال وحال استبصار وهو التفكر في المحصل والتمتع به وحال تبصير وهو أشرف الأحوال فمن علم وعمل وعلّم فهو كالمسك الذي يطيب غيره وهو طيب "
والعالم دائم التعلم مهما بلغ من مراتب العلم ولسيدنا موسى عليه السلام في ذلك العبرة فهو في موقفه مع الخضر متعلماً على الرغم من ارتفاع مرتبة سيدنا موسى عن الخضر وفي ذلك يقول القرطبي :" المتعلم تابع للعالم وإن تفاوتت المراتب ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر ما يدل على أن الخضر كان أفضل منه فقد يشذ عن الفاضل ما يعلمه المفضول والفضل لمن فضله الله ".
حلية العالم كما حددها العلماء :
1- تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذموم الأوصاف .. يقول الغزالي " إن قلت كم من طالب ردئ الأخلاق حصل العلوم نقول هيهات ما أبعده عن العلم الحقيقي النافع في الآخرة الجالب للسعادة فإن من أوائل ذلك العلم أن يظهر له أن المعاصي سموم قاتلة" .
2- يقول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه " تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم وتواضعوا لمن تعلمون وليتواضع لكم من تعلمونه ، ولا تكونوا من جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم "
3- الشفقة على المتعلمين . يقول الغزالي " المعلم هو المفيد للحياة الأخروية الدائمة أعني معلم علوم الآخرة أو علوم الدنيا على قصد الآخرة لا على قصد الدنيا ، فأما التعليم على قصد الدنيا فهو هلاك وإهلاك" .
4- ينبغي أن يكون للعالم فراسة كما قال الماوردي يتوسم بها المتعلم ليعرف مبلغ طاقته وقدر استحقاقه ليعطيه ما يتحمله بذكائه ويضعف عنه ببلادته فإنه أروح للعالم وأنجح للمتعلم .
5- يقول الغزالي :" على العالم أن يقتدي بصاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه فلا يطلب على إفادة العلم أجراً ولا يقصد به جزاءً ولا شكرا ، بل يُعلّم لوجه الله تعالى وطلبا للتقرب إليه ، ولا يرى لنفسه منة على المتعلمين وإن كانت المنة لازمة عليهم بل يرى الفضل لهم إذ هذبوا قلوبهم لأن تتقرب إلى الله تعالى بزراعة العلوم فيها كالذي يعيرك الأرض لتزرع فيها لنفسك زراعة فمنفعتك بها تزيد على منفعة صاحب الأرض " وأحسب أن هذا الأمر لا يتعارض مع ما يخصصه ولى الأمر من رواتب للعلماء والمعلمين لأن مقصود الغزالي هو قبول الأجر وما على شاكلته من طلاب العلم أنفسهم مما يفسد أداء العالم ويجعلها مجرد وظيفة إن دفع له الطالب علمه وإلا امتنع .
6- أن ينبه العالم المتعلم أن الغرض بطلب العلوم هو القرب إلى الله تعالى دون الرياسة والمباهاة والمنافسة ويقدم قبيح ذلك في نفسه بأقصى ما يمكن ، فليس ما يصلحه العالم الفاجر بأكثر مما يفسده.
7- من آداب العلماء أن لا يعنفوا متعلما ولا يحقروا ناشئا ولا يستصغروا مبتدئا فإن ذلك أدعى إليهم وأعطف عليهم وأحث على الرغبة فيما لديهم ومن آدابهم ألا يمنعوا طالباً ولا يؤيسوا متعلما لما في ذلك من قطع الرغبة فيهم والزهد فيما لديهم واستمرار ذلك مفض إلى انقراض العلم بانقراضهم
8- على العالم العمل بما علم حتى يكون قوله مطابقا لفعله، فإن كان مخالفاً له فليس بأهل لأن يؤخذ عنه ولا أن يُقتدى به في علم .
9- يقول اللواء دكتور فوزي طايل – رحمه الله – في كتابه القيم - كيف نفكر استراتيجيا – " لا ينبغي على علماء الأمة الهجرة إلى خارجها والإقامة هناك إلا لطلب العلم ولاستكمال البحث والدراسة ثم العودة فور انتهاء مهمتهم وذلك لاحتياج أمتهم إليهم " .
وختاماً لله در على ابن أبي طالب إذ يقول :
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن اهتدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حياً به أبدا الناس موتى وأهل العلم أحياء