بين الدين والدنيا .. لماذا تأخرت الأمة ؟ * *
25 ذو القعدة 1427

[email protected]
مفهوم خاطىء سرى بين أبناء أمة الإسلام أضر بقيمتها وخلف ركبها عن التقدم والطموح والإنجاز والعمل , إنه سوء الفهم في التفريق بين الدين والدنيا , أو قل إذا شئت " فصل الدين عن الدنيا "
(وفي محاضرة قيمة منشورة للشيخ الدكتور محمد العبدة - حفظه الله - أجلى فيها كثيرا من الغبش الحاصل حول ذلك الموضوع , وحاولنا في هذا المقال متابعة الفكرة وزيادة تبيين المقصود )..
فبين رؤية البعض أن الدنيا لابد منها ليتمكن المرء من العيش الكريم السوي وتتمكن أمته من النهوض والتقدم والغلبة والتمكين وبين رؤية البعض الآخر أنه أن الدنيا لاقيمة لها أبدا بحال وأنها يجب أن تهجر هجرا تاما ..
هذا التضاد الموجود في شخصية كثير من المسلمين كان من الأسباب الخفية التي أدت إلى ضعف المسلمين اليوم ..
, وقد تلقف الفكر الصوفي ذلك الفصل بين الدين والدنيا وضخمه أيما تضخيم وعرض للناس تفسيرا لكثير من النصوص يدفعهم دفعا للقعود عن الإنجاز والعمل والبناء والسعي لنصرة الأمة .
ويعتبرالسبب الرئيس في ذلك هو الفهم الخاطئ لكثير من الآيات والأحاديث الواردة في ذم الدنيا :
فالقرآن عندما يذم الدنيا لا يذمها مجردة وإنما يذمها مقارنة بالآخرة ونعيمها " وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع " " إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار " ..
كما أن القرآن قد ذم الغرور بالدنيا وأن يعمل الإنسان لمجرد العمل فيكون كالحيوان يأكل ويشرب ويتمتع " إنما الحياة الدنيا لهو ولعب وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد .."
كما أن القرآن قد ذم الدنيا كذلك لمن رضيها حظا لنفسه وجعلها مبلغ مراده " ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها " يونس 7
كذلك فقد ذم القرآن الدنيا لتنبيه الغافلين وخاصة ذوي الجاه والأموال الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم قال سبحانه حاكيا عن قوم قارون له : " إذ قال له قومه لاتفرح إن الله لايحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولاتنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض " القصص .. ..
وليس المراد إهمال الدنيا بالكلية واجتثاثها , بل تصريفها في أغراض الحق واستعمالها في نفع أمة الإسلام وقيم الإيمان ووراثتها لإقامة العدل والصلاح " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون " الأنبياء 105
ومن هذا الفهم المغلوط لبعض النصوص خرج ماأشرنا إليه من الفكر الصوفي في ترك الدنيا بالكلية والقعود عن معالي الأمور , فقد قيل لبعض المتصوفة : كيف ترى الدنيا ؟ قال : ما الدنيا ؟ لا أعرف لها وجودا ، و سمع بعضهم من يقرأ قوله تعالى " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة " فصاح وأين من يريد الله ؟ ! قال الشيخ رشيد رضا – معلقا على هذه المقولة - : " وهو قول حسن في الظاهر قبيح في الباطن . فالآية خطاب لخيار الصحابة وارادة الدنيا والآخرة بالحق هي إرادة لمرضاة الله " المنار(238/2)
فالفهم الصحيح لهذه الآيات أن نقول إن المراد هو استخدام الدنيا في طاعة الله عز وجل , وعدم إرادتها لمعصيته أو الغفلة عنه .
وإذا كانت هذه الدنيا هي وسيلة أو قنطرة إلى اليوم الآخر . أليس من الواجب إصلاح هذه القنطرة بالإيمان أيضا لكي نتمكن من الوصول للغاية الكبرى وهي الفوز بالجنة والنجاة من النار ؟!
بل ورد الأمر صلى الله عليه وسلم أن نصلح دنيانا وإن قامت الساعة : فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة ( وهي النخلة الصغيرة أو الودية ) فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها " رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وقال الألباني صحيح على شرط مسلم و حسنه البدر العيني في عمدة القارئ (155/12)
وأيضا روى عن الحارث بن لقيط قال : "كان الرجل منا تنتج فرسه فينحرها فيقول أنا أعيش حتى أركب هذه ؟ فجاءنا كتاب عمر : أن اصلحوا ما رزقكم الله فإن في الأمر تنفسا " رواه البخاري في الأدب المفرد (478) وصححه الألباني
وأيضا روى البخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن سلام قال " إن سمعت بالدجال قد خرج وأنت على ودية تغرسها فلا تعجل أن تصلحه فإن للناس بعد ذلك عيشا " صححه الألباني
وأيضا روى ابن جرير عن عمارة بن خزيمه بن ثابت قال : " سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي : ما يمنعك أن تغرس أرضك ؟ فقال له أبي : أنا شيخ كبير أموت غدا . فقال له عمر : أعزق عليك لتغرسها. فلقد رأيت عمر بن الخطاب يغرسها بيده مع أبي .
إلى غير ذلك من الأحاديث والآثار في الأمر بإصلاح الدنيا ولأن من إصلاح الدنيا صلاح الدين .
- نتيجة التفرقة بين الدين والدنيا ؟
"إن البشرية قد مرت عليها فترات طويلة في الماضي والحاضر كانت تمشي بهذه التفرقة بين طريق الدين وطريق الدنيا وتعتقد أن العمل للآخرة يقتضي الانقطاع عن الدنيا والعمل للدنيا يزحم وقت الآخرة . وكانت هذه الفكرة عميقة الجذور في النفس البشرية بل وتعدت هذه الفكرة إلى مفاهيم الأخلاق . إلى غير ذلك من التفرقات التي تنبع من نقطة واحدة وهي " التفرقة بين الدنيا والدين " .
وأدت هذه التفرقة إلى عزلة بعض الناس وتنسكهم وتبتلهم بعيدا عن مجتمعاتهم وتكالب آخرين على الحياة يجعلونها همهم الأوحد ينتهبون ما فيها من متعة قبل وقت الفوات فتملكهم شهوتهم ولا يملكون نفسهم منها وتقتلهم في نهاية الأمر أو تشقيهم بالتعلق الدائم الذي يهنئ ولا يستقر .
إن العجيبة في هذا الكيان البشري عجيبة الفطرة التي فطره الله عليها ، أن هذا الشتات النافر المنتشر يمكن أن يجتمع و يتوحد و يمكن أن يترابط ثم يصبح في وحدته تلك وترابطه أكبر قوة على الأرض , والطريق الأكبر لتوحيد هذا الشتات النافر المنتشر وربطه كله في كيان هو توحيد الدنيا والآخرة في طريق , فعندئذ لا تتوزع الحياة عملا وعبادة منفصلين حين يلتقي طريق الدنيا بطريق الآخرة وتلتحم النفس المفردة بكيانها الأكبر فعندئذ تستريح إليه وتنسجم وتدخل في إطاره .
والذي يصنع ذلك هو الفهم الصحيح للإسلام . فالإسلام هو الذي يصنع هذه العجيبة " وهو توحيد الدين والدنيا في نظامه " .
قال الله تعالى : وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا " القصص الآية ((77 .
وقال تعالى :" قل من حرم زينة الله التي أخرج لعبادة والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة " الأعراف الأية (32) .
وقال تعالى : " هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها "
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الترجمة الكاملة الصادقة لهذه الحقيقة الإسلامية ومن ثم كانت الدنيا والآخرة في نفسه طريقا واحدا ونهجها واحدا فكانت كل أعماله صلى الله عليه وسلم مقصود بها وجه الله تعالى وحده . وهو صلى الله عليه وسلم لم يكف لحظة عن تعمير الدنيا والعمل لإصلاح الأرض وإحسان الاستخلاف فيها
فهو صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنه وهو الواضع لهذا المنهج القويم لتحقيق الإسلام في عالم الواقع . فكان صلى الله عليه وسلم يحارب في سبيل الله يسالم في سبيل الله ويدعو في سبيل الله ويتزوج في سبيل الله وعلى سنة الله ويأكل بسم الله . فكل عمله إذن عبادة يتوجه بها إلى الله والطريق أمامه طريق واحد . وهو الطريق إلى الله ولا يكل ولا يمل حتى آخر لحظة في حياته . صلى الله عليه وسلم كان يسير في الطريق فيعمل في الدنيا وهو يعنى الآخرة ويعمل للآخرة بالعمل في الأرض .
وقال الله تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر " الأحزاب الآية (21) .
نعم إن في ذلك من حياته صلى الله عليه وسلم لدرسا يقتدي فيه المسلمون بينهم ويهدون به البشرية الضالة إلى سواء السبيل يتعلمون أن يربطوا طريق الدنيا بطريق الآخرة ويتعلمون أن الدين ليس عزلة عن الحياة وإنما هو صميم الحياة .
ولا يظنوا أن الدين هو بعد عن المجتمعات وانعزال عن عمارة الأرض والطموح في بنائها وإصلاحها والسعي لرفعة أمة الإسلام ..
ولا يظنو أنهم لو دخلوا تيار الحياة إنهم بذلك لن يرضوا الله عز وجل وإنهم لو دخلوا المدرسة أو الجامعة فلن يرضوا ربهم أو المعمل أو المتجر أو المصنع أو غير ذلك ولكن المفهوم الصحيح للإسلام هو أن يأكلوا بسم الله ويتزوجوا بسم الله ويتعلموا باسم الله ويعمروا باسم الله ويتقدموا باسم الله وفي سبيل الله .
وحين يعلم المسلمون ذلك سيلتحقون بما سبقنا فيه الغرب وتخلف فيه المجتمع المسلم فانتشرت البطالة والفقر وعم القعود والكسل
وقد كان المسلمون وهم يؤمنون بدينهم ويعملون به يبنون أروع حضارات الأرض وينشئون أرفع مفاهيمها ولا ينحرفون عن طريق الله .
فكانت طاقة العمل تدفعهم لإصلاح الأرض والإنشاء والتعمير والفتح في الأرض فبلغوا في لمحة خاطفة من الزمن ما لم يبلغه غيرهم في قرون وكل هذا كان في سبيل الله ولم يفصلوا بين الدين والحياة .
فالعمل في الأرض لا ينبغي أن ينقطع لحظة حتى ولو كانت القيامة بعد لحظة بل ينبغي عليهم أن يعملوا ولا يساموا من العمل ولا ينتظروا الثمرة في الحال بل عليهم أن يعملوا ويصبروا ولا ييأسوا بسبب الفشل . فإن كل المعوقات والمسيئات والمستحيلات كلها لا وزن لها ولا حساب لها ولا قيمة .
وبمثل هذه الروح الجبارة تعمر الأرض حقا وتشيد فيها المدنيات والحضارات وتعود للمسلمين قوتهم وحضارتهم ويستطيعوا من خلال ذلك نشر الإسلام ونشر العقيدة الصحيحة ونبذ الشرك وهدمه في قلوب الناس .
ويقول الشيخ رشيد رضا : " وليس من هدي الإسلام أن يترك المسلمون الدنيا ومعانيها وسياستها ويكونوا فقراء أذلاء تابعين لغيرهم من الأقوياء ولا أن يكونوا كالأنعام لا همَ لهم إلا في شهواتهم البدنية " المنار 118/1))
• نعم إن من المعروف إنه كان هناك من الصحابة على عهده صلى الله عليه وسلم مثل عبد الرحمن بن عوف أو عثمان أو غيرهم من الصحابة أصحاب الثروات الهائلة ولم يكد أن يطلب منهم الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يتركوا هذا المال والمتاجرة به ويلتحفون الفقر ويلبسون جلود الضأن . بل كانوا يستخدمون المال في سبيل الله حتى جهز عثمان بن عفان رضي الله عنه جيشا كاملا زاد به عن حياض الإسلام ورفع به راياته ..واشترى بئرا للمسلمين يسقون منه ويشربون في وقت جفت حلوقهم من العطش ..
فلذلك فإن للمال أهميته في الإسلام , فعن طريقه يمكن أن يكون عونا على طاعة الله و هذا المال لا يكون إلا عن طريق مزج الدين بالحياة .
فإن المسلمين في حالة التقهقر الحضاري رجعوا إلى التبذير والسفه حين لا يقدر قيمة المال وينفق في أغراضه الخاصة . ولا يستخدمون المال في النفع العام للمسلمين .
إننا هنا لا نتحدث عن أفراد بحالاتهم الفردية ولكننا نتحدث عن حال جمعي للأمة الإسلامية التي تئن وتنزف تحت وطأة عدوها من جهة وضعف أبنائها من جهة أخرى ..
لقد حملت النظرة الخاطئة للكسب والعمل والمعاش الإمام محمد بن الحسن الشيباني على تأليف كتابه " الكسب " بين فيه أهمية العمل والأدلة على ذلك ..
وكتب أبو بكر الخلال كتاب " الحث على التجارة " .
وقد اهتم ابن خلدون أيما اهتمام بالكسب الحقيقي والسعي إذ تحدث عن الصنائع وارتباط الفكر باليد لأكتساب المهارة في الحرف وانتقد المجتمع الذي غلبت البداوة عليه فابتعد عن الصناعة إذ إنه يكون أسيرا لما يأتيه من المجتمعات الأخرى التي ربما تناصبه العداء فيكون عندئذ شقاؤه ونهايته ..
======================================================

* * المقال هو متابعة للمحاضرة القيمة للشيخ الدكتور محمد العبدة – حفظه الله – بعنوان " الدين والدنيا "