في عصور الانحطاط يغلب على الناس التفكير الجبري، حيث يشعرون أنه لا حول لهم ولا طول، وحيث يشعرون بانسداد الآفاق وضيق المخارج، أما في عصور الازدهار فإن كل شيء ينتعش، حيث تسيطر على الناس المفاهيم والمشاعر التي تحفزهم على مقاومة الإحباط، وتلك التي تحدوهم إلى تلمس آفاق جديدة للحركة وحقول جديدة للممارسة، وإن مما يذكر للحضارة المعاصرة أنها وفّرت الكثير من المفاهيم التي تساعد المرء على تحليل مشكلاته والوقوف على أوجه قصوره الذاتي، كما وفرت الكثير من الطرق والأساليب التي يمكن أن تستخدم في تجاوز العقبات وحل المشكلات.
عقيدة الإسلام توفر بنية عقدية ونصوصية ممتازة للاستمرار في طلب النجاح ونيل شرف المحاولة، لكن معظم الناس لا يستفيدون من المبادئ الكبرى إذا لم تتجسَّد لديهم في نماذج، وإذا لم تشرح من خلال مفاهيم جزئية وطرق عملية، وهذا ما أنجزه الناجحون والمبدعون والمخترعون في العصر الحديث من خلال دأبهم في البحث وإصرارهم على الوصول إلى نتائج جيدة، ومقاومتهم لليأس والإحباط، وقد أشاعوا حقيقةً في العالم الروح التي عبر عنها أحد الزعماء حين قال: إن الإجابة الوحيدة على الهزيمة هي الانتصار.
وهذه بعض النقاط التي تساعدنا على الوقوف في وجه الإخفاق:
1- أول خطوة على طريق مقاومة الإخفاق أن يدرك المرء أنه مخفق، وأن النتائج التي حصل عليها هي أقل بكثير مما كان في إمكانه أن يصل إليه، وليس هذا بالأمر اليسير؛ حيث إن كل واحد منا يعرف أشخاصاً كثيرين لا يعرفون حقيقة ما هم عليه من إخفاق وخسران وتخلف، إنهم يفقدون المرآة التي يرون فيها أنفسهم، ويفقدون الحسّ الذي يساعدهم على تحديد موقعهم على خارطة الخير والشر، وتحديد موقعهم بين الأقران والنظراء على حد قول الله – جل وعلا -: "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً" (الكهف:104).
لا ريب أن الإخفاق درجات، فالطالب الذي أخذ صفراً في مادة مخفق، والذي أخذ ثلاثين درجة من مئة مخفق، والذي كان يسعى لأن يكون الأول بين زملائه ثم كان ترتيبه الخامس مخفق... إلخ؛ كل هؤلاء من المخفقين، لكن هناك فرق بين إخفاق وإخفاق، ولا بد من القول: إننا في تقويمنا لنجاحاتنا وإخفاقاتنا مدينون للمجتمع الذي نعيش فيه، فهو الذي يحد العتبة والسقف، أي أفضل ما يمكن أن نبلغه وأسوأ ما يمكن أن ننحدر إليه؛ ولهذا فربَّ ناجح في معايير بيئة هو في معايير بيئة أخرى مخفق كالذي يدرس في جامعة ضعيفة، ثم ينتقل إلى جامعة قوية جداً. هذا كله يعني أن النجاح والإخفاق شيئان نسبيان.
2- لا بد أن ننظر إلى الإخفاق نظرة جديدة إذا ما أردنا مقاومته، وهذه النظرة يجب أن تقوم على عدد من المفاهيم، منها: أن الإخفاق شيء طبعي في الحياة، وهو شيء مشتق من القصور البشري، فنحن لا نعرف أنفسنا تمام المعرفة، ولا نستطيع على وجه التحديد تقدير حجم إمكاناتنا الكامنة، كما أننا لا نستطيع أن نخمِّن على النحو المطلوب طبيعة الظروف التي سننفذ فيها مشروعاتنا ولا العقبات التي ستواجهنا. إننا نعمل تحت تأثير عدد من النظم المفتوحة، والتي تأتينا دائماً بالمفاجآت؛ ولهذا فإنه لا ينبغي أن نتعجب ممن يخفق ولكن ممن ينجح بصورة دائمة، ولكن هل هناك فعلاً من لم يذق طعم الإخفاق؟ لا أظن ذلك، ففي حياة كل الناجحين وكل الأبطال نقاط ضعف ونتائج سيئة لم يكونوا يتوقعونها، لكن الوضعية العامة لهم تغطي على ذلك، وتجعل آثاره غير منظورة.
من المفاهيم التي يجب أن نمتلكها بالنسبة إلى الإخفاق: أن الإخفاق يدل على فضيلة المحاولة والشروع في عمل ما، حيث إن كثيراً من الناس يعيش في حالة من البؤس، لا لأنه أخفق، ولكن لأنه محدود الطموحات، مشلول الإرادة، محروم من نيل شرف التجربة والمحاولة! علينا ونحن في حالة الإخفاق أن نتخلص من الهالة الشعورية السيئة التي تطبق علينا نتيجة شعورنا بضعف الكفاءة وبالتفاؤل، وهذا لن يكون إلا بالانصراف مباشرة إلى التفكير في النهوض بعد كل كبوة والشروع في عمل جديد نعوِّض به ما فاتنا. إن أي هزيمة يمكن تجاوزها – مهما كانت – إذا استطعنا أن نعالج ندوبها في نفوسنا، وذلك بالتطلع إلى المستقبل، وبالثقة بمعونة الله – تعالى – للجادين المثابرين، وعلى العكس من هذا فإن إخفاقاً صغيراً قد يؤدي إلى تدمير بنيتنا الشعورية إذا سبحنا في الأوهام، ونظرنا إليه على أنه بداية لإخفاقات لا نهاية لها.
3- لن يكون هناك فائدة ذات قيمة يمكن أن نستفيدها من وراء معرفتنا بإخفاقاتنا إذا أدمنا البحث عن الأعذار التي تجعل الإخفاق شيئاً خارج إرادتنا وإمكاناتنا، وقد دلت التجربة على أن كل واحد منا يملك قدرة مدهشة على إيجاد المسوِّغ لأخطائه وتقصيراته، حتى عتاة المجرمين فإنهم يملكون منطقاً يمكنهم من جعل الوضعية التي هم فيه قابلة للشرح وقابلة للتصديق من قبل أنفسهم – على الأقل – ومن قبل بعض الناس أيضاً، ولطالما سمعنا من يقول: أخفقتُ في دراستي الجامعية بسبب الخلافات المستمرة بين أبي وأمي، والتي كانت تحرمني من نعمة الهدوء والاستقرار، ومن يقول: لو تلقيت المساعدة من رئيسي في العمل لنجحت في مهمتي، ومن يقول: لو كنت في بلدي لأسست أفضل مشروع خيري هناك، ومن يقول: لو أُعطيت الفرصة المناسبة لأظهرت براعتي في الأمر الفلاني، وهكذا...
لو تأمل أصحاب هذه الأعذار وأمثالها في أوضاعهم لوجدوا أن هناك أشخاصاً كثيرين أنجزوا أموراً عظيمة وتجنبوا الإخفاق، وخرجوا من وضعية التمني والتشهي مع أنهم يعيشون في ظروف أسوأ من الظروف والأحوال التي مروا أو يمرون بها.
حتى نكف عن اختلاق الأعذار نحتاج إلى مواجهة صريحة مع النفس من خلال امتلاك الشجاعة التي تمكننا من رؤية أنفسنا على حقيقتها، وحين نحوز ذلك فسنجد أن المشكلة الأساسية في كل إخفاقاتنا تعود إلينا شخصياً، وأن دور الآخرين كان في معظم الأحيان هامشياً، ولو تعمقنا أكثر فأكثر لوجدنا أن تأثير الظروف المحيطة هو تأثير نفسي في المقام الأول، وهو تأثير لا يكون إلا عندما يكون الواحد منا في وضعية شعورية وعقلية تتسم بالهشاشة وعدم السواء.
4- لنحاول حين نخفق في أمر من الأمور أن نقوم بتحليل جيد لأسباب الإخفاق، وذلك التحليل لا ينفعنا من خلال المعطيات التي قد يوفرها لنا فحسب، وإنما يفيدنا أيضاً من خلال بناء هيكلية نفسية وشعورية تتأبى على الاستسلام للنتائج الصعبة، وبناء عقلية واعية بذاتها وقادرة على التمييز بين الأعذار الوهمية وبين الأسباب الحقيقية للإخفاق، حين يواجه الواحد منّا حالة إخفاق فإن عليه أن يمعن النظر فيها، ويحاول أن يسجل على الورق إجابات للأسئلة الآتية:
- لماذا حدث ذلك؟
- هل حدث بسبب أن طموحاتي أكبر من إمكاناتي، أم بسبب أن توقيت الإنجاز كان غير ملائم، أم بسبب سوء التخطيط والإعداد، أم بسبب حدوث أمور لم آخذها في الحسبان...؟
- إذا عزمت على تكرير العمل الذي أخفقت فيه، فما الطريقة التي يجب أن أؤديه بها، وما التعديلات التي يجب إدخالها على الطريقة السابقة؟
- الأمور التي سببت الإخفاق السابق، هل يمكن فعلاً تجنبها في المحاولة الجديدة أم أن هناك احتمالاً لتكررها؟
- هل الأولى الإعراض عما أخفقت فيه والبدء بعمل جديد قد يكون نجاحي فيه أكبر؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل أنا متأكد أنني عزمت على ذلك من خلال رؤية واضحة، أم بدافع من الإحباط الذي ولّده الإخفاق السابق؟
- ما الدروس والعبر التي لم أكن لأتعلمها لولا الإخفاق الذي وقعت فيه؟
- هل أنا واثق من أنني قادر على تجاوز آثار الإخفاق السابق.
لا ريب أن أجوبة هذه الأسئلة لن تكون واضحة وحاسمة دائماً، ومع هذا فنحن بحاجة إلى عمل ذلك حتى لا يتوالى مسلسل المشروعات المخفقة.
5- قد تعودنا أن نتحدث عن أسباب النجاح وشروطه، وهذا شيء جيد، لكننا إلى جانب هذا في حاجة إلى أن نثقف أنفسنا بثقافة الإخفاق أيضاً، ولا أقصد بالإخفاق هنا خوض تجربة غير ناجحة فحسب، وإنما أعني إلى جانب ذلك الوضعيات السيئة التي يعيش فيها الأشخاص العاديون ومن هم دونهم من أولئك الذين لم ينجزوا في حياتهم إلا أقل القليل.
إن معظم الناس يقعون في الأزمات والمشكلات بسبب قلة خبرتهم بالأسباب التي توقعهم فيها، ومع أن كثيراً من أسباب الإخفاق قد يكون معلوماً لدى القارئ الكريم إلا أنني أود أن أجمع شتات المهم منها هنا، حتى تترسخ في الأذهان، ومنها:
- عدم وجود هدف واضح في الحياة، يجعل التحفيز على العمل الجاد شبه معدوم.
- نقص في الطموحات، والرضا بالقليل من كل شيء، وهذا مدعاة إلى عدم الشعور بالحاجة إلى التطوير وبذل الجهد.
- التدني في مستوى ما ناله الشخص من تعليم منهجي وسوء التربية الأسرية، وهذان العاملان من أكبر العوامل التي تجعل المرء عادياً أو أقل من عادي.
- عدم امتلاك خلق الصدق وخلق الأمانة مما يُضعف الثقة بالمرء، ويحرمه بالتالي من كثير من الفرص.
- الاتصاف بصفة الكِبْر، حيث يجد المتكبر صعوبة في الاعتراف بالخطأ وفي التعلم من غيره.
- الإسراف في الشهوات والانحراف عن الطريق القويم؛ مما ينهك العقل والجسد.
- النقص في تركيز الجهد في أمر أو تخصص معين، إذ يتوقف كثير من النجاح في بعض الأحيان على الاهتمام بقضية صغيرة والتعمق فيها.
- عدم القدرة على التعاون مع الآخرين، وعدم امتلاك روح الفريق، وهذا سبب خطير من أسباب الإخفاق؛ ولا سيما في عصرنا الحاضر.
- النقص في الانضباط الذاتي، حيث يصبح الإنسان في حالة من الفوضى الشعورية والسلوكية.
- إرجاء الأمور المهمة والتسويف في أداء الواجبات، وتفويت الفرص في انتظار الوقت الملائم، والذي قد لا يأتي أبداً!
- الاعتماد على الظن والتخمين عوضاً عن التفكير، واتخاذ قرارات مصيرية من غير توافر قاعدة معلومات جيدة.
- عدم القدرة على المثابرة والاستمرار في أداء الأعمال.
- الرغبة الجامحة في الحصول على أشياء مهمة من غير بذل الجهد الذي يجب أن يبذل في سبيلها، كما يفعل المغامرون والمقامرون.
- الاختيار الخاطئ للمهنة أو التخصص الذي يمارسه الشخص مدى حياته؛ مما يؤدي إلى التشتت وفقد الحماسة والانسجام.
المهم دائماً في مقاومة الإخفاق ألا نهرب من تحمل مسؤولياتنا عن أعمالنا، وألا نظن أن الإخفاق في أمر من الأمور يعني نهاية العالم وطي صفحة الوجود!