من معوقات الاستقامة...بيئة غير صالحة
9 شعبان 1439
د. عامر الهوشان

قد لا يخلو الكثير من السالكين لطريق الله المستقيم من هذا العائق وقد لا يسلم منه إلا القليل من السائرين على منهج الله القويم , فقد فسد الزمان وشاع العصيان وطغت مظاهر مخالفة أوامر الله تعالى وتجاوز حدوده حتى أضحى المتمسك بدينه كالقابض على الجمر والمستقيم على منهج الله كالغريب الطارئ رغم كونه في ديار الإسلام .

 

 

هذا شاب عزم على ترك دروب الغواية وصدق في نية السير في طريق الاستقامة فحالت البيئة المحيطة به عن تلك الغاية وكانت أسرته وعائلته وأقرب المقربين إليه أكبر عائق بينه وبين ما نوى وأراد .

 

 

لم يقتصر دور والد هذا الشاب و عائلته عموما على عدم توفير القدوة الحسنة له داخل البيت وفي مجالس العائلة من خلال تركهم للفرائض والواجبات الإسلامية وعلى رأسها الصلوات الخمس بل تعداه إلى محاولتهم ثنيه عن عزمه الاستمرار في التزام طريق الهداية والفلاح بالسخرية منه ومن سلوكه القويم تارة وباتهامه بالتشدد والتعصب تارة أخرى .

 

 

لا يمكن تغافل مدى تأثير تلك الكلمات الساخرة والنظرات المستهزئة التي يتلقاها الشاب اليافع حدث السن قليل التجربة من أقرب الناس إليه وألصقهم بحياته اليومية على نفسه ومشاعره وهو في أول تجربة له مع الالتزام , فالضغط النفسي الذي تسببه تلك الكلمات والنظرات قد تفضي بالكثير من حديثي العهد بالسير في طريق الاستقامة للتنكب عن مواصلة السير فيه والعودة إلى ما كانوا عليه من غفلة وعصيان .

 

 

قد لا تكون الأسرة والعائلة العائق الوحيد في هذا المجال , فهناك المجتمع الذي قد يكون له أيضا دور سلبي في طريق استقامة كثير من شباب الأمة , فالفتاة التي عزمت على لبس الحجاب بشكل يتوافق مع شرع الله الوارد في كتابه وسنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم وقررت ترك ما كانت عليه من تهاون في هذا الأمر و إنهاء عهد الميوعة في أداء هذا الواجب و....قد لا تجد من المجتمع الذي تعيش فيه معينا ومشجعا , بل ربما كان أحد أهم عوائق التزامها واستقامتها .

 

 

وإذا كان هذا حال الفتاة التي تعيش في مجتمع إسلامي تسربت إليه الكثير من عادات وسلوكيات المجتمعات الغربية غير المسلمة فلا شك أن معاناة الفتاة التي قررت الالتزام بالحجاب الشرعي والاستقامة عليه في المجتمعات الغربية ستكون أشد ومواجهتها لضغوط المجتمع وتأثيراته السلبية على قرار استقامتها سيكون أكبر .

 

 

يمكن استخلاص أثر البيئة والمجتمع على استقامة المسلم إيجابا وسلبا من بعض آيات القرآن الكريم وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم , فقد أمر الله تعالى المؤمنين في آية التوبة بقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } التوبة/119 , و أورد ابن كثير في تفسيره عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قوله : {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمْرَ وَأَصْحَابِهِمَا .....وهو ما يشير إلى أثر البيئة وأهميتها في الثبات على الاستقامة وعدم التنكب عنها .

 

 

ولعل في حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا ثم عزم على التوبة والاستقامة...الوارد في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ما يؤكد على دور البيئة وأثرها في نجاح توبة التائبين وفلاح أوبة المفرطين النادمين واستمرار استقامة العازمين على انتهاج طريق الله القويم .  

 

 

ورد في نص الحديث المذكور أن الرجل سأل عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ : إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ : لَا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ......

 

 

لقد كانت النصيحة الأولى وربما الشرط الوحيد الذي اشترطه العالم على الرجل السائل المفرط في جنب الله لصلاح توبته وضمان استمرار أوبته وعدم تعرضها للعوائق والعقبات هي : ترك أرضه التي وصفت بنص الحديث بأنها بيئة فاسدة وأرض سوء والسفر إلى بيئة صالحة ومكان جديد فيه أناس يعبدون الله تعالى ليساعدوه على ثبات توبته ودوام استقامته .

 

 

وحين نفذ الرجل ما طُلب منه وشرع بالسفر فعلا تاركا الأرض التي عصى الله فيها مقبلا على البيئة الجديدة الصالحة....كانت العاقبة خير وفلاح بنص تتمة الحديث : ( .....فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ ) صحيح مسلم برقم/2766.

 

 

ومع الاعتراف بأثر البيئة غير الصالحة على استقامة أبناء الأمة ودور تفشي الانحراف في المجتمع كأهم وأبرز عوائق الثبات على منهج الله القويم.....إلا أن ذلك لا يعني تبرير تمادي البعض في المعصية وإصرار آخرين على عدم التوبة والاستقامة فحياة السلف الصالح مليئة بالنماذج الكثيرة التي تجاوز فيها الكثير منهم - وعلى رأسهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - لذلك العائق بنجاح , ولعل في قصة سعد بن أبي وقاص مع أمه التي كان أبر الناس بها حين حاولت صده عن دينه والضغط عليه كي يرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم بامتناعها عن الطعام والشراب حتى أيقنت أن لا جدوى وفائدة من ذلك....خير مثال لشباب الأمة اليوم وأروع نموذج للثبات أمام امتحان الله لأحدهم في فساد البيئة أوانحراف المجتمع .