الفصام القبيح
12 ربيع الثاني 1439
د. خالد رُوشه

كثيرا ما يتردد على ألسنة الناس تقصيرهم في العبادة مع الله سبحانه ، وغفلتهم التي يرتجون أن تزول ، ورغبتهم في التوبة والأوبة ..

 

ولست أتهم أحدا بسوء نية في مثل تلك المحادثات التي يتحدثونها فيما بينهم ، لكنني قد تألمت من كثرة ما وجدت من تناقض عند الناس بين مثل هذا القول وبين الأفعال الواقعية !

 

 

لاشك أن الألم من التقصير شىء إيجابي , وأن السعي للنموذج والقدوة شىء مطلوب وأن الشعور الدائم بالتقصر في جنب الله سبحانه مبشر بخير ودافع إلى الأفضل .

 

ولكن ما يلفتني ههنا هو ذلك الاعوجاج في النظرة إلى الأعمال , فالبعض يشعر بالتقصير تجاه بعض السنن بينما هو قابع غارق في الآثام الكبرى , وبينما هو متألم من الغفلة عن بعض المستحبات إذا به ساكت راض عن كثير من المحرمات والمنكرات !

 

فكم سمعت ممن يمصمص شفاهه كونه لايستطيع الاستمرار على قيام الليل ، لكنه في الحقيقة يشكو منه الناس لسوء أخلاقه ، وقسوة فعاله ، وغلظته مع اهل الحقوق !

 

وكم رايت من يعلن حزنه على عدم المتابعة في مدارسة العلم ، بينما هو غارق في اكل اموال الناس بالباطل ، يمار في أداء دينه وهو قادر ، ويماطل في رد المظالم وهو قادر .

 

وكم عرفت من يهز راسه استغفارا عندما يسمع آيات الله تتلى في جمع من الناس ، بينما هو غاش لبضاعته ، غير ناصح للمؤمنين فيما يبيعه .

 

هذا وأمثاله اضعاف مضاعفه بلغت حد التهاون في الكبائر من الغيبة والنميمة والكذب والوقيعة واذية الجار ، بل وترك الفرائض ، بينما هؤلاء الجناة يعلنون الاسى والحزن لتقصيرهم !

 

للاسف فإن هذا الذي اشكوه قد مس عددا غير قليل من المتدينين أنفسهم ، ومن الملتزمين ذواتهم ، إذ صاروا يتحدثون بالتألم على السنن والفضائل وهم مفوتون للاصول والأسس !

 

المشكلة هنا مركبة ، فالسنن والفضائل أعمال عظيمة جدا مرغوب فيها ولاشك ، لكن هؤلاء لا يقيمون ما يتالمون من فواته من السنن والفضائل ، إضافة إلى تضييعهم الفرائض ووقوعهم في الكبائر ..هذا هو الخطر

 

لقيني قبل أيام أحد التجارالذين يبدو من ظاهرهم سمت الالتزام بالسنن , فقال : أحمد الله على تجارتي الواسعة ورزقي المبارك , وأنا أحاول أن أعمل الصالحات وأتصدق وغير ذلك , ولكنني مقصر في كثير من الأعمال كقيام الليل وحضور دروس العلم , وأنا أشعر أني اتراجع يوما بعد يوم برغم نيتي الطيبة ..

 

قلت له تعال بنا نبدأ بالبداية الصائبة , هل حرصت على تنقية قلبك من شوائب الشرك وآثامه ؟ هل ثبت قلبك على يقين الإيمان ؟ هل علمت حق الله عليك فسعيت في تطبيق ذلك ؟ هل علمت حق نبيك صلى الله عليه وسلم وحق دينك فقمت به؟

 

هل أنكرت على نفسك الآثام الكبرى فنقيت نفسك منها ... هل فعلت ذلك ابتداء ؟!

قال الرجل : ظننت من نفسي اني أفعل ذلك , لكنني في الحقيقة كذلك مقصر في كل ما ذكرت !

 

قلت له : وكيف تقصيرك في باب الآثام الكبار إذن ؟

قال : سأصدقك .. للأسف فأنا مقيم على معصيتين ثابتتين منذ سنين لا استطيع تركهما , الأولى هو غش بعض البضاعة التي أبيعها ( لكن صدقني كل التجار يغشونها ولست وحدي ) , والثانية كثرة الكذب والحلف الكاذب في وعود رد الأموال وإعطائها بل الكذب في معظم الكلام الخاص بالتجارة !

 

قلت له : ههنا إذن لنقف , أنت قابع على كبيرتين هما الغش والكذب , ثم أنت تتألم من ضعف الالتزام بقيام الليل , إن قيام الليل ياايها التاجر نعمة من الله ومنة , يمن بها الله سبحانه على عباده , وقديما قال ابن ادهم لمن شكى له عدم قيامه بالليل " قيدتك ذنوبك "

 

وكذلك فالصالحات الأخرى شىء عظيم كريم مرغوب فيه , لكننا يجب علينا أن نصارح أنفسنا لنبني قلوبنا بناء صائبا , لنحرص على تنقيتها من أمراضها وآثامها بينما نحن نهتم بالصالحات أيضا .

لنتبع السيئة الحسنة بصورة فورية سريعة , فنندم على الذنب ونحدث الطاعة والاستغفار والتوبة ...

 

لنقطع على أنفسنا طريق الإثم الذي اعتدناه , ونسعى في كبته والندم عليه والتخلص منه , مع حرصنا على الطاعات , لننتظم ونثبت على الفرائض والواجبات مع سعينا للالتزام بالمستحبات.

 

في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر بقبرين , فقال : إنهما ليعذبان , وما يعذبان في كبير , أما أحدهما فكان لا يتنزه من بوله , وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة " متفق عليه