معاناة الاب المسافر .. والاسرة الممزقة !
6 صفر 1439
د. خالد رُوشه

لست أنصح ابدا أحدا من المتزوجين واصحاب العوائل أن يسافروا فترات طويلة ويتركوا اسرهم ..

 

فالبحث العلمي والتطبيقي يدلنا وبوضوح على مشكلات تتعرض لها الاسر التي يسافر عنها عائلها ، ومعاناة يعانيها الابناء ، وتعانيها الأمهات من ذلك ..

 

المنظر الخارجي للاسرة التي سافر عنها عائلها قد يكون كاذبا ، فإنك تراهم متيسرين من الناحية المالية ، تستجاب طلباتهم العينية ، يكثرون التنقل ، ويستمتعون بحرية كبيرة في حياتهم !

 

الحقيقة غالبا غير ذلك ، هذا المال ينقلب بلاء وخطرا بدلا من أن يكون نفعا وميزة ، فالأبناء يسيؤون التصرف فيه ، ويجعلهم  بكثرته – يستهينون بقيمته –  وقد يودي بهم توفره الزائد إلى طرق خاطئة ومعاص خطرة ، فضلا عما يستقر في نفوسهم من معاني عدم تحمل المسئولية الشخصية ..وغير ذلك

 

كما أن الحرية المزعومة التي ينتزعها الابناء من أمهم الضعيفة ، هي حرية بلا ضابط ، تفسد اكثر مما تصلح ، وتضر أكثر مما تنفع ..

 

من أجل ذلك اقول أن من سافر لفترات طويلة غير مضطر ماليا أو غيره ، وترك زوجته وأولاده ، وفضل كسب المال على وجوده مع أسرته وتربيته لاولاده باي حجة كانت ، فإنما هو مجرم في حق نفسه واسرته ، بل إنه كمن يلقي باسرته في البحربلا قارب .. فلا يحزن بعد ذلك ولا يستغرب إن وجدهم في اسوأ حال .. اما المضطرون فيرعاهم الله سبحانه واهليهم

 

لقد قام العديد من العلماء بإجراء دراسات ميدانية على مجموعات متنوعة من الأبناء ذوي الأب الغائب ، وكانت النائج سلبية في غالبها ..

 

فالباحثة الأمريكية ميرينا سيرز قررت أن " الأطفال ذوي الأب الغائب أقل شجاعة وسلوكاً مغامراً من أولئك ذوي الأب الموجود "

 

كما وجد العالم الألماني مولر باخ في دراسته أن مجموعة الأطفال ذوي الأب الغائب قد أبدت تصوراً أنثوياً للأب وسلوكه بالمقارنة بالمجموعة الثانية ( ذي الأب الموجود ) التي أبدى أفرادها انطباعات رجولية ومغامرة له.

 

وتوصل جيمس ستولس وزملاؤه إلى : عدم توافر السلوك الإيجابي لدى الأطفال ذوي الأب الغائب, عندما وجدوا أن مثل هؤلاء إما مذعنين أو مترددين في سلوكهم أو علاقاتهم مع أقرانهم, أو كانت ردود فعلهم لأقرانهم عموماً غير ناضجة " ( د . محمد زياد - أثر غياب الاب في شخصية الطفل )

 

 أما هيثر ينجتون فلم يجد فقط بأن الأطفال ذوي الأب الغائب أقل رغبة من المبادرة أو المغامرة،،  بل كانوا أيضاً أكثر اعتماداً على غيرهم وأقل اندماجاً في الألعاب أو الرياضيات الجسمية.

 

وبحسب ما أكدته دراسات علم النفس فغياب الأب يجعل الأطفال يواجهون صعوبة كبيرة في عملية تطور سلوكهم الاجتماعي العام، فيكون نموهم أقل استقلالية وأضعف قدرة ذاتية على ضبط سلوكهم الفردي .

 

وكشفت دراسة أجرتها مؤسسة التنمية الأسرية حول التفكك الأسري في دولة الامارات العربية المتحدة، ان غياب الأب عن المنزل سواء للعمل أم للسفر خارج البلاد له الأثر الأكبر في التفكك الأسري وبنسبة 85%  !

 

إن هناك ثلاث مشكلات كبيرة يمكن أن تنتج من سفر الاب وترك أسرته ( بغير اضطرار ) :

 

فالغربة والبعد النفسي بين الاب وبين ابنائه بسبب بعده لفترات طويلة ، تبني بينهم الجدران النفسية ..

 

بل إنها تكاد أن تنهي أثر شخصية الاب في حياة اولاده ، فيعود الاب في اجازاته أو بعد سفره ، وكانه شخص غريب في البيت تجاه أسرته ، فهم لم يعتادوا طلباته ، ولا عاداته ، ولا ضبطه وربطه وحزمه وسيطرته وقوانينه وغير ذلك ، مما يؤدي لاصطدامات كثيرة واضطرابات متتابعة بينه وبين افراد اسرته ..

 

كذلك ما يحدث بعد سفر الاب لفترات طويلة من تمرد الابناء على أمهم نتيجة ضعفها أو عدم قدرتها على مراقبتهم ورعايتهم ، وما ينتج عن ذلك من سوء سلوكهم ثم تراجعهم العلمي والدراسي والأخلاقي ..

 

فالأم لا يمكنها مراقبة الابناء بشكل متكامل ، فهي لا تستطيع الخروج إلا قليلا ، وحتى لو كانت عاملة فليس عندها الدراية الواسعة بخلطة المجتمع لتستطيع المراقبة والمتابعة .

 

والابناء في مرحلة ما يسمونها بالمراهقة يكون عندهم ميل نحو فرض شخصيتهم وسلوكهم ، وغالبا ما يصطدمون برؤى الكبار ، فلو لم يكن هناك من يحتويهم ويحسن التعامل معهم بين الحزم والرفق فإنهم يخرجون من الطوق خطوة خطوة ..

 

هذا فضلا عن التراجع في المستوى الراسي الذي غالبا ما يحدث لهم نتيجة الترهل في البناء الاسري ، وعدم المتابعة مع المدرسة والمعلمين وغيرها

 

أضف إلى ذلك ما يمكن أن تعاني منه الزوجة نفسها نتيجة ضعفها وقلة خبرتها أمام مجتمع ملىء بالذئاب ومساوىء الأخلاق ، ونتيجة ذلك السلبية على نفسيتها وشخصيتها وسلوكها ..

 

كل هذا الذي ذكرته ليس من بينه ما يمكن ان يحصل من معاناة الاب نفسه من وحدته في سفره ووحشته واغترابه ، وتوتره النفسي ، وقلقه على اسرته ، وعدم تلبية حاجاته الاساسية ، وغير ذلك

 

لكن بالطبع فإن هناك ظروفا مختلفة قد تدعوا الاب للسفر بسبب أو آخر ، لذلك فانصح من دعته ظروفه للسفر وترك اسرته أن يفعل عدة اشياء بسيطة لكنها مؤثرة :

 

- أن يترك اسرته في رعاية بديلة ..مثلا : ( الجد - الخال ) او في وجود ابن كبير يعتمد عليه

 

- أن يؤمن لهم النفقة الاقتصادية حتى لا يعانون مشكلة الحاجة إضافة لمشكلة غيابه

 

- أن يجتهد بشدة في ان يعود في أجازات على فترات قريبة ( 6 شهور مثلا ) لو استطاع ..

 

- أن يتواصل معهم في سفره بشكل مستمر ، ولو كان يوميا لكان أفضل ، ويهتم بشؤونهم ..

 

- أن يبذل جهده بشدة في التقارب مع ابنائه والحديث معهم وحل مشكلاتهم الشخصية اثناء فترة أجازاته مغ سعيه للتقارب القلبي معهم ..

 

- أن يبذل جهده بكل جدية واجتهاد ليستقدمهم معه في سفره للحياة معه ، حتى لو اثر ذلك سلبا على نفقاته وادخاراته ..