مما لا شك فيه أن للكلمة أثراً كبيراً، خاصة إذا انصهرت مع أخواتها في بوتقة لتخرج لنا عبارةً أو جملة تُقَدَّم في شكل نصيحة غالية تبقى عالقة في الأذهان لترسم لنا منهج حياة.
كما تَعْظُم الكلمةُ ويعلو شأنها ويرتفع قدرها بعِظَم وقَدْر قائلها؛ ولا ريب أن أعظم المربين وقائد التربويين نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم كان المثل الأعلى والقدوة في تعامله وتربيته بطريقة سلسة عذبة لطيفة ليس فيها عنف ولا غلظة؛ بل فيها المحبة والرغبة في صلاح الأطفال والخوف عليهم والشفقة بهم، مما يسهم بكل يسر وسهولة في توصيل القيمة التربوية التي يريد إيصالها للأطفال وتجعلهم يتقبلونها بل ويتمسكون بها ويسيرون عليها طيلة حياتهم..
وهذا نموذج من نماذج التربية النبوية يتمثل في وصية أوصاها ابنَ عمه عبدَ الله بن عباس وهو غلام؛ حيث ورد في الحديث، عن حنش الصنعاني عن عبدالله بن عباس قال كنت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يومًا؛ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا غلام إني معلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فلتسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"(1).
ومن الدروس التربوية المستفادة من هذا الحديث ما يلي:
- لفت الانتباه : فعلى المربي عندما يريد أن يغرس قيمة أو يوصي من يقوم بتربيته وصية، أن يبدأ بلفت انتباهه ليصغي إليه ويتهيأ لاستقبال ما يريد أن يقوله له، وعليه أن يتخير الأسلوب والألفاظ التي يستخدمها في ذلك، سواء باسم أو كنية محببة له ، ويبدو ذلك في نداء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما بقوله: (يا غلام).
- استخدام أسلوب التشويق: فقد تختلف الأساليب التي يستخدمها الإنسان من شخص لآخر في التمهيد لعرض فكرته أو نصيحته أو ما يريد أن يوصله لشخص آخر، ومن الأهمية بمكان اختيار الأسلوب الأمثل، ومن ذلك استخدام أسلوب التشويق للمتلقي قبل البدء في الحديث معه عما تريد أن تقوله له أو تنصحه به، ويبدو ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني معلمك كلمات..) قبل البدء فيما يريد أن يوصله من نصائح وقيم حتى يسترعي قلبه قبل سمعه وبصره.
- غرس قيمة مراقبة الله: فمراقبة الله عز وجل من أهم القيم التربوية التي يجب غرسها في الناشئة، حتى يسير في حياته كلها وهو يعلم أن الله يراه وأن الله مطلع عليه وأن كل ما يقوله أو يفعله محاسَب عليه من الله سبحانه وتعالى؛ فحِفْظُه لله تعالى يكون بحفظ أوامره وامتثالها والابتعاد عما نهى الله عنه وبأن يجده الله حيث أمره وأن يفقده حيث نهاه؛ فبذلك يتحقق حفظه لله وبالتالي يستحق حفظ الله له في نفسه وأهله ودينه ودنياه وآخرته.
- ربط الأبناء بمعية الله: فلا شك أن ربط الابن بالله تعالى منذ الصغر ينشئ عنده تربية ذاتية إيمانية تمنعه من الوقوع في المعاصي فتحصنه – بإذن الله - أيما تحصين من الشهوات والشبهات؛ فمعية الله سبحانه وتعالى نتيجة لحفظ الناشئة لله عز وجل، وبالتالي ينالون معية الله، يدلهم على كل خير ويقربهم إليه ويهديهم إليه سبحانه ويجدونه معهم في الشدائد .
- غرس العقيدة الصحيحة في نفوس الأبناء: ويبين ذلك في التأكيد على أن الله بيده كل شيء وهو الذي يقدر الأمور خيرها وشرها وهو سبحانه وتعالى المعطي المانع، الضار النافع، المعين المجيب؛ فتعويد الناشئة وتربيتهم على أنهم لا يسألون غير الله؛ حيث إن العبد لا ينبغي له أن يعلق سره بغير الله، بل يتوكل عليه في سائر أموره؛ لأنه القادر على الإعطاء والمنع، ودفع الضر وجلب النفع.
وأيضاً تربيتهم على ألا يستعينوا إلا بالله عز وجل فهو سبحانه المستعان وعليه التكلان، الذي بيده ملكوت السموات والأرض.
ومن أهم الأمور العقدية التي ينبغي أن تغرس في نفس الناشئة أنه لن يصيب الإنسان إلا ما قد كتبه الله له في سابق علمه سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ من التقديرات التي قدرها الله عز وجل؛ فما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك..
هذا غيض من فيض وقليل من كثير مما يمكن الاستفادة منه في هذا الحديث المبارك .. فلا تبخلوا على أبنائكم بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وعلِّموهم هذه الكلمات التي ترسم منهج حياتهم.
____________________
(1) أحمد 2669، الترمذي 2516، وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع 7957.