هو يوم النجاة، وهو يوم الشكر، ويوم التتويج لجهود السنين بل القرون، ويوم النصر، ويوم حصاد الدعوة الطويلة وثمرتها، أو بالإجمال هو: يوم عاشوراء.
قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، قال: فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه " رواه البخاري، وفي رواية له أيضا "ونحن نصومه تعظيما له" وزاد مسلم في روايته "شكرا لله تعالى فنحن نصومه" ورواه الإمام أحمد بزيادة: "وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكرا". وقصة نجاة نوح عليه السلام مع المؤمنين في سفينته لم يذكر حدوثها في يوم عاشوراء إلا برواية أحمد، وعن هذا يقول الحافظ ابن حجر في الفتح: "وكأن ذكر موسى دون غيره هنا لمشاركته لنوح في النجاة وغرق أعدائهما".
اشتهر بين الناس اقتران عاشوراء بنجاة موسى عليه السلام، وقد مضى الحديث عنها في مقال سابق [*] لكن ربما كان الحديث عن اقتران نجاة نوح عليه السلام قليلاً بعض الشيء بالنظر إلى عدم شهرة رواية أحمد بين الناس، أو ربما لأن معظم العبر البديعة المستقاة من قصة نجاة النبيين الكريمين تكاد تكون متقاربة وسيقت في قصة موسى عليه السلام.
لكن مع هذا التقارب فإن توكيد المعنى بها، واستكناه بعض كنوزها جمال على جمال، ففي قصة نجاة نوح عليه الصلاة والسلام والمؤمنين معه ما يستحق أن ينفرد به الحديث، فلقد عاني النبي الكريم، ذو العزم، من ابتلاءات لا يمكن احتمالها، على مدى طويل لا نظير له، فالصبر على لأواء التكذيب والمعاندة والاستكبار لما يقرب من ألف سنة، هو أكثر مما يتصوره عقل، والمضي قدماً في طريق يكاد يخلو من نصير، لا يطيقه بشر إلا أولئك العارفون بالله سبحانه وتعالى، المستئنسون بخلوته، المستشعرون معيته.
وإذ تأتي الطعنات الغادرة للداعية من أقرب مقربيه رحماً، ابنه، وزوجه، اللذين هما أولى الناس بالتصديق والاتباع كون القدوة الحقيقية مشاهدة عن كثب، وطول العشرة حادٍ إلى الإيمان بصدق النبوة والدعوة التي يحملها النبي الكريم عليه السلام؛ فإن الابتلاء والألم يصبح مضاعفاً شديد الوطأة على النفس المؤمنة ما لم تكن موصولة بالوحي، مستندة إلى ركن من الإيمان شديد. شدة الوطأة تلك التي بلغت حدود الخيانة: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا } يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تطلع على سر نوح، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، فكان ذلك من أمرها " ، وقال أيضاً: " كانت امرأة نوح تقول للناس: إنه مجنون"، وبلغت حد الخروج من مسمى الأهل بالكلية: { قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ }.
ثم، حين تكون أعمال الداعية مادة للسخرية والازدراء والاستهزاء من شذاذ الآفاق، وعديمي الإيمان، ودهماء الناس؛ فإن هذا الابتلاء يصبح مضاعفاً، فكيف ولو كان مزمناً، شائعاً، ملازماً ما دام في الطريق سفهاء، إلى حد صوره القرآن بدقة: { وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ } "كلما مر"، فديمومة الاستهزاء والسخرية هذه قاتلة إلا لنفوس رسخ الإيمان في قلوبها واطمأنت إلى معية خالقها عز وجل، فكيف لو كانت ديمومة هذه السخرية لسنين تعددت الروايات حولها ما بين سنتين إلى مائة سنة يصنع فيها الفلك ويسخر فيها الملأ كلما مروا به خلالها.
إنها قصة طويلة من جهاد وصبر وعناء ودعوة ومجاهدة وابتلاء، كوفئ صاحبها والمؤمنون معه بنجاة وانتصار لا نظير له في التاريخ الإنساني كله.. كانت تلك النجاة والانتصار بإغراق الأرض كلها إلا سفينة نوح عليه السلام، والإطاحة بكل هؤلاء الكافرين دفعة واحدة، وتطهير الأرض من رجسهم وكفرهم، كانت ولم تزل معجزة فريدة، ونموذجاَ مغاير للانتصار، وثمرة زكية لجهود نبي صبور مجاهد جسور، عليه السلام، وتكليلاً لدعوة لا يكل صاحبها ولا يمل، لا يضعف فيها أو يفتر، لا ينتظر فيها أجراً ولا شكوراً من ساكني الأرض، كل الأرض.
قد كانت هذه المعجزة كلها يوم عاشوراء، الذي سجله التاريخ كيوم انتصار ونجاة وشكر لنبيين كريمين من أولي العزم من الرسل، وتحول هائل في التاريخ الإنساني، ففي يوم واحد تعدلت الموازين، وطاش ميزان الكفر والإجرام والطغيان، طاشت كل حسابات المجرمين، مكرهم، تدبيرهم، أحابيلهم، سخرياتهم، شائعاتهم، وأتاهم الله من حيث لا يحتسبون، ومكن الله سبحانه وتعالى ما بين طرفة عين والتفاتتها للمستضعفين الأبرياء الذين زرعوا فسائلهم وانصرفوا محتسبين الأجر من رب السماء والأرض.. وكان يوم عاشوراء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[*] مقال يوم نجى الله فيه موسى