مفاهيم صححها النبي صلى الله عليه وسلم ...من هو الرَّقُوب ؟!
5 محرم 1439
د. عامر الهوشان

ورد في الحديث الصحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : ( مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمْ ). قَالَ قُلْنَا : الَّذِى لاَ يُولَدُ لَهُ . قَالَ : ( لَيْسَ ذَاكَ بِالرَّقُوبِ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِى لَمْ يُقَدِّمْ مِنْ وَلَدِهِ شَيْئًا ) . صحيح مسلم برقم/6807

 

 

قال النووي في شرحه للحديث : أصل الرقوب في كلام العرب الذي لا يعيش له ولد , ومعنى الحديث أنكم تعتقدون أن الرقوب المحزون هو المصاب بموت أولاده وليس هو كذلك شرعا , بل هو من لم يمت أحد من أولاده في حياته فيحتسبه يكتب له ثواب مصيبته به وثواب صبره عليه ويكون له فرطا وسلفا . شرح النووي على مسلم  16/161 

 

 

مشهد جديد من مشاهد التصحيح النبوي للمفاهيم الخاطئة تتجلى في هذا الحديث , وفصل آخر من فصول تصويب التصورات الشائعة بين الناس غير المتوافقة مع مفاهيم وتصورات دين الله الحق .

 

 

الأسلوب الذي استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم هنا هو أسلوب السؤال والاستفهام الذي من شأنه إظهار ما في الأذهان من تصورات ومفاهيم شائعة متداولة في حياة المسلمين ليتم تصويبها وتصحيحها بما يتناسب مع قيم الإسلام ومبادئه ومفاهيمه  .

 

 

المفهوم الذي تناوله الحديث النبوي بالتصحيح هنا هو : مفهوم الرّقُوب إذ كان السائد بين عامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس عموما أن الرّقُوب فيهم من ابتلي بموت الذرية فلا يكاد يعيش له ولد أو هي المرأة التي لا يبقى لها ولد ....وهو مفهوم يرتكز على اعتبار الحياة الدنيا التي يكون فيها الولد زينة ومتعة وفقدانه فاجعة وحَزَنَا وحسرة وبؤسا .

 

 

أهم ما ارتكز عليه التصحيح النبوي لهذا المفهوم الخاطئ هو التذكير بالجانب الأساسي المنسي في الموضوع ألا وهو الجانب الأخروي , فما الحياة الدنيا بمتاعها وزخرفها وزينتها إلا مرحلة قصيرة لا تكاد تذكر أمام الحياة الحقيقية الأخروية الباقية الخالدة التي تنتظر الإنسان غدا يوم القيامة .

 

 

من هذا المنطلق فتح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عيون وأفئدة أصحابه وأمته على حقيقة من هو "الرّقُوب" على وجه الحقيقية , إذ أكد لهم أنه ذلك الذي لم يكن له نصيب من الأجر الكبير والثواب العظيم الذي ينتظر الصابر المحتسب على موت أحد أولاده و فقدان فلذة أكباده .....

 

 

 كثيرة هي الأحاديث النبوية التي تكشف عن عظيم ثواب الصابر المحتسب على موت الولد وفقدان فلذات الأكباد ...الأمر الذي يعتبر العزاء الأهم للوالدين في مصابهما ويجعل من الابتلاء نعمة ومن المحنة منحة ومن المصيبة عطية ... فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : ( مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الْجَنَّةُ ) صحيح البخاري برقم/6424 

 

 

قال ابن الجوزي في (كشف المشكل) : الصفيُّ : المصطفى كالولد والأخ وكل محبوب مؤثر . وقال ابن حجر في فتح الباري : "فاحتسب" أي صبر راضيا بقضاء الله راجيا فضله .

 

 

وفي حديث آخر عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته : قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده. فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد. رواه الترمذي برقم/1021 وحسنه الألباني .

 

 

وعن قرة بن إياس قال : كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه، فهلك فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه فحزن عليه ، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال : مالي لا أرى فلانا؟ قالوا: يا رسول الله بنيه الذي رأيته هلك. فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن بنيه فأخبره أنه هلك ، فعزاه عليه ثم قال : ( يا فلان أيهما كان أحب إليك أن تمتع به عمرك أو لا تأتي غدا إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك ) . قال : يا نبي الله بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي لهو أحب إلي . قال : ( فذاك لك ) . سنن النسائي وصححه الألباني . 

 

 

تزداد أهمية التصحيح النبوي للمفاهيم والتصورات الخاطئة في هذا العصر الذي نعيشه حيث طغت فيه المفاهيم المادية على المعنوية وتغولت فيه الاعتبارات الدنيوية على الأخروية وأحدث فيه الناس انفصالا عجيبا بين أحداث الدنيا وارتباطها بالآخرة مغنما أو مغرما .

 

 

بل يغدو البيان النبوي من هو "الرّقُوب" حقا أشد ضرورة و أكثر إلحاحا وأهمية في زمن زادت فيه مشاهد خروج بعض المسلمين عن منهج الإسلام في استقبال مصيبة موت الولد تحديدا وفقدان الأحبة والخلان عموما , وكثرت فيه حالات الاجتراء على قضاء الله وقدره بنطق ألفاظ وكلمات فيها من الاعتراض على حكم الله ما فيها . 

 

 

 

ولعل ما يزيد الطين بلة - كما يقال - تأثّر الكثير من المسلمين بوسائل الإعلام التي أبعدت المسلمين عن التأسي بسيرة السلف الصالح في استقبال الابتلاءات والمصائب - وعلى رأسها موت الولد – وربطتهم بالكثير من النماذج الخاطئة المخالفة لمنهج الإسلام بهذا الخصوص .