الحسرة الحقيقية
4 ذو الحجه 1438
د. عامر الهوشان

في ظل هيمنة المفاهيم الدنيوية على عقول ونفوس كثير من المسلمين في هذا الزمان في مقابل غياب واضح وانحسار ملحوظ لفاعلية حقائق مفاهيم الدار الآخرة في حياة الموحدين وواقعهم المعاش .....تغدو الحسرة منحصرة في الغالب على متع الدنيا الزائلة وشهواتها الفانية .

 

 

كثيرا ما يشهد أحدنا - في ظل هذا التدهور المفاهيمي المخيف – موقفا لشخص يعض أصابعه حسرة على منفعة مادية فاتته أو صفقة تجارية خسرها أو منصب دنيوي لم يحظ به أو...... يبث همه وحزنه للمقربين منه ومن يلونه , ويكاد يهلك نفسه حسرة وألما وكمدا على ما فاته .

في مقابل هذه الحسرة المفرطة على أمور الدنيا ومتعها الزائلة لا يجد المتابع لأحوال المسلمين ندما أو حسرة على فوات طاعة أو موسم عبادة أو عمل خير وبر أو .... مما يستأهل التحسر ويستوجب الندم على فواته ويستحث على العزم على إدراكه في قابل الأيام قبل فوات الأوان بانقضاء الأجل وانتهاء إمكانية العمل و حصول الحسرة الحقيقية .

 

 

استوقفتني هذه المعاني وأنا أتلو كتاب الله تعالى الذي لم يرد في آياته إلا حسرة المفرطين في جنب الله تعالى على ما فاتهم في الدنيا من العمل الصالح , وحسرة الكافرين على مصيرهم الأبدي في نار جهنم بعد أن قضى الله تعالى بين عباده.....

 

 

لم أجد في القرآن الكريم ما يشير من قريب أو بعيد إلى تسويغ ما يقوم به بعض المسلمين من حسرة على فوات مال أو منصب أو جاه دنيوي عارض زائل يمكن تعويضه ولا يضر فواته , ولا إلى تبرير غفلتهم عن الحسرة الحقيقية التي لا تقتصر على حسرة الكافرين على ما فاتهم من الإيمان بالله وإفراده وحده بالعبودية والألوهية فحسب , بل ورد أن المؤمن يتحسر يوم القيامة على ساعة في الدنيا لم يذكر الله فيها أو لحظة لم يغتنمها في طاعته وعبادته كما ذكر المناوي في شرحه لحديث مُعَاذِ بن جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ( لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا ) رواه الطبراني والبيهقي وضعفه الألباني .

 

 

قال المناوي في فيض القدير عند شرح الحديث : وذلك لأنهم لما عرضت عليهم أيام الدنيا وماذا خرج لهم من ذكر الله تعالى، ثم نظروا إلى الساعة الأخرى التي حرموا فيها الذكر مما تركوه من ذكره فأخذتهم الحسرات ، لكن هذه الحسرات إنما هي في الموقف لا في الجنة كما بينه الحكيم وغيره ، والغرض من السياق أن تعلم أن كل حركة ظهرت منك بغير ذكر الله فهي عليك لا لك، وأن أدوم الناس على الذكر أوفرهم حظا وأرفعهم درجة وأشرفهم منزلة .

 

 

كثيرة هي الآيات والأحاديث التي تؤكد أن حسرة العبد الحقيقية إنما تكون على ما فرط في جنب الله وما فاته من الإيمان بالله والعمل الصالح , قال تعالى : { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } الزمر/56 

 

 

جاء في تفسير الآية عند الإمام الطبري : ( أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ ) بمعنى لئلا تقول نفس وهو نظير قوله : { وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } النحل/15 بمعنى : أن لا تميد بكم . ( عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ) قال الحسن : قصرت في طاعة الله . وقال مجاهد : في أمر الله . وقال سعيد بن جبير : في حق الله ...الخ .

 

 

لقد أورد القرآن الكريم آية هي الأشد بيانا في كون الحسرة الحقيقية - بل و الكبرى – هي تلك التي تكون في الموقف الأعظم من مواقف يوم القيامة , حين يفصل الله تعالى بين أهل الجنة وأهل النار , فيُدخل عباده الموحدين في الجنة خالدين فيها أبدا ويُلقي بالكافرين في نار جهنم خالدين فيها أبدا , قال تعالى : { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } مريم/39 

 

 

وقد أورد ابن كثير في تفسيره حديثا في صحيح مسلم يشرح الآية ويبينها , عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ - زَادَ أَبُو كُرَيْبٍ: فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَاتَّفَقَا فِي بَاقِي الْحَدِيثِ - فَيُقَالُ: يَأَهْلَ الْجَنَّةِ، هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، وَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: وَيُقَالُ: يَأَهْلَ النَّارِ، هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ: فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، وَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ. قَال: فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: يَأَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَأَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ. قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الدُّنْيَا .

 

 

ومن يطالع سيرة السلف الصالح يدرك مدى زهدهم في الدنيا وتعلقهم بالآخرة , فلم يرد عن أحدهم أنه تحسر على متعة من متع الدنيا الزائلة , بل كانت أقوالهم وأفعالهم تعبر عن حقيقة انشغالهم بالآخرة عما سواها .

 

 

فها هو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول : ما ندمت على شيء ندمي على يومٍ غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي .

 

 

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه "الوابل الطيب" من فوائد ذكر الله تعالى : أنَّهُ يُؤَمِّنُ العَبْدَ مِنَ الحَسْرَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ ؛ فَإنَّ كُلَّ مَجْلِسٍ لا يَذْكُرُ العَبْدُ فِيْهِ رَبَّهُ تَعَالى كَانَ عَلَيْهِ حَسْرَةً وتِرَةً يَوْمَ القِيَامَةِ .

 

 

إن استحضار المسلم لمواقف الحسرة الحقيقية التي ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز وبينها رسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم في سيرته وسنته وجسدها السلف الصالح في حياتهم اليومية ...... كفيلة بإحداث نقلة نوعية في دائرة اهتماماته بحيث تجعله لا يتحسر على ما فاته من متع الدنيا وشهواتها الفانية , بل يحرص على أن لا يكون ممن يتحسر يوم القيامة على ما فاته من الأعمال الصالحة .