الحوار عندما يكون إيجابيا
27 شوال 1438
د. خالد رُوشه

ثلاثة أمور لو طبقناها صارت حواراتنا إيجابية وهادئة ، ولم تتحول غضبا وغيظا .. أن نذكر أنفسنا أن أفكارنا ليس لها ما يدعمها في نفس الآخر ولاقلبه لذلك هو يرفضها ، وأن نفهم أنه ليس من واجبنا اجبار الآخر على الاقتناع بآرائنا وقبولها ، وأن ندرك أنه يمكنه أن يقول : لا ؟! ..

 

 

وحتى تقنع الآخرين برايك يلزم أيضا ثلاثة أمور : أن تحترم قيمة من تحاوره ، ثم تبني قاعدة عاطفية داعمة لرأيك ، ثم تتحدث بما يخاطب العقل .. ان حواراتنا الفاشلة لهي دليل على عدم قدرتنا الحضارية , بل دليل على الأثر الهمجي في التعامل الإنساني بيننا .

 

 

الرؤية الاسلامية للحوار جعلته وسيلة مثلى للتلاقي والتفاهم والتقارب وحل المشكلات ونشر المفاهيم , ولا أبالغ إن قلت إن الحوار في الاسلام دليل واضح من أدله رقيه الفكري وسموه المنهجي .

 

 

الاختلاف بين الناس في شؤونهم من دنياهم أمر قديم , وهو مستمر باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها , قال سبحانه : " ولو شاء ربك لجعل الناس أمه واحدة ولا يزالون مختلفين ,إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " ولكن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون الناس مختلفين " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى " .

 

 

ولو أننا فهمنا أسباب الاختلاف وبواعث فشل الحوار لنجحت حواراتنا , واستطعنا بها أن نقرب الهوة الخلافيه بيننا . فإن عدم وضوح الرؤية لموضوع الحوار من كل جوانبه بين المتحاورين هو سبب أصلي من أسباب فشل الحوار , فربما الصواب لم يصبه المتحاورون من كل الوجوه , ولكنهم لم يخطئوه من كل الوجوه , بل أصاب بعضهم بعضه , وأصاب الآخرون بعضه .

 

 

ولو أن المتحاورين درسوا موضوع حوارهم قبل النقاش , ورأوا جوانبه , واستبصروا بمحيطه والمؤثرات عليه لأثر ذلك إيجابيا في نجاح حوارهم . كذلك فإن الانطباعات المسبقة عن موضوع الحوار وعن الأشخاص المتحاورين تؤثر سلبا على نتائج ذلك الحوار , إن ذلك يعد نوعا من التقليد الأعمي الذي قد ذمه الله ورسوله , فأنت قد جئت تنوي أن ترى الموقف برؤية مسبقة وبانطباع مسبق , فكيف تصل إلى فائدة من هذا الحوار إذاً ؟ خصوصا إذا اجتمع مع الانطباعات المسبقة نوع من التعصب للآراء أو للأشخاص تعصبا يدفعه الهوى , فيرفع شأن الأشخاص على المعانى والأفكار والمضامين فيصير المحاور أداه بلا عقل , ولسانا بلا فكر .

 

 

إن الصواب كالمطر لا تستفيد منه إلا الأرض الطيبة النقية التي تستطيع أن تتشربه فتنتج الخير وتنفع الغير , أما إن كانت صلبة خبيثة فهي تطرد الماء وتظل قاحلة . المنافع الشخصية هي الأخرى دافع سلبي خبيث من دوافع فشل حواراتنا , فلئن جئت إلى الحوار تنوي الكسب الذاتي أو المصلحة الخاصة فهيهات أن يخرج حوار ناجح , كيف إذاً وحالتك تلك ستدعوك دوما إلى إنكار الحق ولو بان أمامك , وإلى اتهام الصواب ولو ثبت بالدليل !

 

 

إن حواراتنا ليلزمها الصدق ابتداءً , هذا الصدق الذي يدفع النية إلى قبول الصواب من أي جهة كان , وعندئذ تكون الحكمة ضالة المتحاورين , ويكون احترام الآخر أساسا من أسس الحوار , ويكون البحث عن الصواب هو الهدف والمرتجى .

 

 

إننا دائما نفقد الموضوعية في الحوارات وأعني بها التزام مناط موضوع المناقشة , وعدم الخروج عن النقطة محل الخلاف , وهو ما نسميه الآن خلط الأوراق . فتتوه الحقائق وتتفرع فروع الكلام والنقاش , حتى لا تكاد تعرف لها أصلا .

 

 

وانظر إلى نماذج الحوار في كتاب الله , وكيف أن الرسل عليهم السلام كانوا يلتزمون الموضوعية ويجيبون بما يقتضيه مقتضى الحوار بصورة تامة .

 

 

فالقرآن يحكي عن نوح عليه السلام وما قاله قومه له ويحكي رده عليهم : " قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين , قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين , أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون " .

 

 

وانظر إلى هذا النوع الآخر من الحوارات القرآنية في الرد على الشبهات وكيف التزام الموضوعية الشديدة فيه , قال سبحانه :" وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها , قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون , قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين , كما بدأكم تعودون " .

 

 

إننا دائما في حواراتنا الفاشلة نريد أن نقيم الحجة بشكل هو أقرب للجنون , فإما أن نستخدم الصوت أو السباب أو الملأ المجتمع حولنا , أو نستدل بأخبار كاذبة , أو بدلائل واهية , ونتفنن في إغاظة من يحاوروننا , ونسعى جاهدين لإخراجهم عن طبيعتهم ودفعهم نحو الخطأ , فنثير المحاور , ونبلغ كرهه , فتفشل حواراتنا دائما .

 

 

إن الدليل الواضح , والبرهان الثابت , والفكر السديد الذي يقنع المتحاور ويبلغ قلبه وعقله هو ذلك المفقود في حواراتنا .

 

 

وانظر إلى ذلك النوع المُفحِم من الحوار من قوله تعالى على لسان إبراهيم للنمرود : " فإن الله يأت بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر " .

 

 

إن هدف الوصول إلى الحقيقة لو تحلى به المتحاورون لوصل الحوار إلى قمة الأداء , وأفضل النتائج .

 

 

وانظر إلى كلام الغزالي رحمه الله في آداب المناظرة إذ يقول " أن يكون في طلب الحق كناشد الضالة , لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه , ويرى رفيقه معينا لا خصما , ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر له الحق .. فهكذا كانت مشاورات الصحابة ومحاوراتهم حتى إن امرأة ردت على عمر ونبهته إلى الحق فقال : أصابت امرأة وأخطأ عمر , وحاور علي رجل في مسألة فقال علي : أصبت أنت وأخطأت أنا "

 

 

وقال الشافعي رحمه الله " ما ناظرت أحدا قط فأحببت أن يخطئ , وما كلمت أحدا قط وأنا أبالي أن يظهر الله الحق على لساني أو على لسانه , وما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها مني إلا هبته , واعتقدت محبته , ولا كابرني أحد على الحق إلا سقط من عيني ورفضته , وقد وددت لو انتفع الناس بعلمي دون أن ينسب إلى منه شيء "