من هدي حديث نبوي شريف .. " كمثل الجسد الواحد "
14 رمضان 1438
د. خالد رُوشه

قال صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر " متفق عليه .

 

إنه وصف لأصحاب الإيمان الذين يعرفون قيمة الروابط الإيمانية الحقة , تلك التي ترتقى كل رابط بني على مصالح الدنيا أو على اساسها .

 

 ذلك أن رابط الإيمان يدوم ولا ينقطع , ويثاب المرء باستمساكه به , ويهب قيما فاضلة بين الناس , فيعلي الحق , ويدافع عن المظلوم , ويرحم الضعيف , ويكفل الفقير , ويجبر الكسير , كل ذلك ابتغاء وجه الله سبحانه .

 

بل إن أثره بين المؤمنين يستمر حتى بعد الحياة , فيظل صاحبه يثاب بصدقته الجارية أو بعمله ذي الاثر الباقي ما يجعل الأحياء يدعون له ويذكرونه بالجميل , ثم تكون المكافأة الكبرى إذ يتوج رباط الإيمان في الحياة بأخوة وصحبة في الآخرة .

 

إن تداعيا مبهرا يحصل بين الأعضاء عند شكوى أحدها وإيلامه , يمثل لنا نوعا معجزا من العطاء إذ تستدعي أنسجة الجسد وغدده وأجهزته دعما لهذا العضو المريض أو المتألم , كما تشتكي تلك الاعضاء بشكواه , ولا تهدأ إلا عند شفائه .

 

إن هذا ما يحدث في الجسد الحي الصحيح , أما الأعضاء التي لا تستشعر آلم بعضها ولا تنتهض لدعمه هي في الحقيقة أعضاء ميتة لا حياة فيها .

 

إن ذلك الرابط الإيماني ليدفع نحو الاهتمام بشكوى أهل الإيمان والشعور بشعورهم , والحرص على دعمهم , والدفاع عنهم , وكفالتهم في نوازلهم ومصابهم ..

 

يقول سبحانه :" وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ " قال الشوكاني عند هذه الآية: أي قلوبهم متحدة في التوادد والتحابب والتعاطف بسبب ما جمعهم من أمر الدين وضمهم من الإيمان بالله. فنسبتهم بطريق القرابة الدينية المبنية على المعاقدة المستتبعة للآثار من المعونة والنصرة وغير ذلك.

 

يقول النبي صلى الله عليه وسلم :" من دعا إلى هدى فله أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة " , ويقول صلى الله عليه وسلم :" من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه " رواه أحمد .

 

وقد علمنا النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم تطبيق تلك المعاني تطبيقا واضحا ..

 

 ففي صحيح مسلم عن المنذر بن جرير، عن أبيه، قال: كنَّا عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في صدر النهار قال: فجاءه قومٌ حفاةٌ عراةٌ مُجتابي النِّمار أو العَباء، متقلِّدي السيوف، عامَّتهم من مُضر، بل كلُّهم من مُضر، فتمعرَّ وجه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثمَّ خرج فأمر بلالًا، فأذَّن وأقام فصلَّى، ثم خطب فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ إلى آخر الآية إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1] والآية التي في الحشر اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحشر: 18]، تصدَّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره - حتى قال - ولو بشقِّ تمرة. قال: فجاء رجلٌ من الأنصار بصُرَّة كادت كفُّه تعجِز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتَّى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يتهلَّل، كأنَّه مذهبة، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: من سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسَنةً، فله أجرها، وأجر من عمِل بها بعده من غير أن يَنقُص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سُنَّةً سيِّئةً، كان عليه وزرها، ووزر مَن عمِل بها من بعده من غير أن ينقُص من أوزارهم شيء " أخرجه مسلم .

 

 

كما مكث شهرا يدعو للمستضعفين من المسلمين الذين يعانون إيذاء المشركين واضطهادهم ، وكان يقول في دعائه: " اللهم أنج الوليد بن الوليد وعياش بن ربيعة وسلمة بن هشام ، اللهم أنج المستضعفين من المسلمين ".أخرجه البخاري.

 

 

وكان يتحمل عمن مات منهم دينه فيقول " أنا أولى بالمسلمين من أنفسهم ، فمن مات وعليه دين فعلينا قضاؤه ، ومن ترك مالا فلورثته". أخرجه البخاري .

 

إن ذاك الجسد المؤمن يئن ويشتكي ملايين من ابنائه اليوم , تارة لفقرهم , وتارة لضعفهم , وتارة لجهلهم , وقد صار الاهتمام لشأنهم والبحث عن معونتهم واجبا شرعيا لا خلاف فيه .

 

إن منهم آلاف الأطفال يرتجفون من الصقيع والبرد لا غطاء لهم ولا سكنى , ومنهم مئات الآلاف من المستضعفين الذين لا يقدرون على القيام بشأن أنفسهم ولا رعاية أحوالهم .

 

إنه لا عذر لأحد في أن ينام ساكنا بينما البرد القارص ياكل أجساد الصغار , والجوع المهلك يؤلم الأسر الفقيرة المهجرة , والخوف المرعب يحيط بالأرامل والنساء اللاتي فقدن أزواجهن , والحزن القاتل يهجم على قلوب الثكالى .

 

إن معاني الإيمان تلك ليست مجرد معان جامدة , ولا نظريات مكتوبة , بل إنها تطبيق وعمل , وتحرك وإيجابية وعطاء , ودفع تنفيذي نحو المسارعة بالبذل والفداء.