قبل أيام من حلول رمضان
21 شعبان 1443
د. عامر الهوشان

قال أحد الأصدقاء وقد بدت عليه أمارات الأسف الشديد و ملامح الندم والحسرة : لقد فاتني الاستعداد الأمثل لشهر الصيام , فلم أصم ولا حتى يوم واحد من شهر شعبان , ولم أتفرغ لتلاوة القرآن كما كان يفعل السلف الصالح في مثل هذه الأيام , وها قد اقترب شهر صيام هذا العام دون أن أستعد له كما كنت آمل وأتمنى .

قلت في نفسي : لقد حق له أن يتأسف ويندم ويتحسر على ما فاته من الاستعداد لرمضان بالإكثار من الصيام في شهر شعبان , فقد جاء في حديث أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ قَالَ : ( ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ ) سنن النسائي برقم/2356 وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب .

وفي صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ .

 

 

إلا أن الندم على التقصير في الإقبال على الطاعات واغتنام الأوقات المباركة والحسرة على فوات التعرض لنفحات الله تعالى في أوقاتها .....لا ينبغي أن تكبل المسلم عن تدارك ما مضى أو تمنعه عن استثمار ما تبقى من أيام وليال قبل حلول شهر الصيام .

نعم....ليس في ديننا الحنيف يأس أو قنوط أو جنوح نحو الاستغراق في الماضي  أوالاكتفاء بجلد الذات أو التأوه على ما فات أو الدوران حول كلمات من أمثال : " ليت و لو و لولا " بينما لا يزال في وقت أعمال الخير متسع وفي لحظات النفحات الربانية بقية .

إن مجرد الاقتصار على  لوم النفس على تقصيرها في الاستعداد الأمثل لاستقبال أفضل الشهور عند الله لا يغني عن المسلم شيئا , فما فات لا يمكن أن يعوض بالحسرة والحزن واللوعة فحسب , بل بالاستدراك واغتنام كل لحظة متبقة قبل حلول شهر الصيام .

وإذا كان تعويض ما فات صديقنا من الصيام المسنون في شعبان استعدادا لاستقبال رمضان قد لا يكون متاحا عند بعض أهل العلم الذين قالوا : إن ابتداء الصيام في النصف الثاني من شهر شعبان منهي عنه إلا لمن كانت له عادة في الصيام أو كان عليه نذر صيام أو كان عليه قضاء من شهر رمضان السابق أو وصله بصيام بعض النصف الأول ...مستدلين على ذلك بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلا تَصُومُوا ) سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني ...وبحديث ( لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلا يَوْمَيْنِ إِلا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ ) متفق عليه ............

فإن تدراك الاستعداد لشهر الصيام بأنواع الطاعات والعبادات الأخرى مفتوح ومتاح حتى آخر يوم من شعبان , فهناك الإكثار من تلاوة القرآن الكريم وتهيئة النفس للاستغراق بنور آيات الذكر الحكيم وتدبر ما فيها من دروس وعبر , فقد ورد عن السلف الصالح أنهم كانوا يكثرون من تلاوة القرآن في شعبان استعدادا لشهر القرآن .

نقل ابن رجب الحنبلي في كتاب لطائف المعارف أن حبيب بن أبي ثابت كان إذا دخل شعبان قال : هذا شهر القراء . وكان عمرو بن قيس المُلائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن ....أما سلمة بن كهيل فيقول : كان يقال : شهر شعبان شهر القراء ....

رد الحقوق والمظالم لأهلها وأصحابها كخطوة أولى وشرط أساسي لا بد منه لقبول التوبة والإنابة إلى الله تعالى هي أهم ما يمكن أن يقوم به من أراد أن يدرك ما فاته من الاستعداد الأمثل لشهر الصيام , فإعلان التوبة الصادقة النصوح قبيل أيام من استقبال هلال رمضان , والعزم على استثمار شهر الصيام للاقلاع عن جميع الذنوب والمعاصي واستبدال ذلك بأصناف العبادات والطاعات ....قد تكون أعظم وأفضل ما تستقبل به شهر رمضان .

لا يحتاج إعلان التوبة وقرار العودة إلى الله تعالى قبيل استقبال أعظم الشهور عند الله سوى الإنصات ولو للحظات لصوت الفطرة السليمة التي فطر الله تعالى بها عباده أجمعين , والخلوة مع النفس لدقائق لإدراك حجم الخسارة في البعد عن طريق الله المستقيم .

الأيام القليلة المتبقية لحلول شهر الصيام هي بمثابة النداء الأخير لأولئك الذين ما زالوا شاردين عن منهج الله وبعيدين عن نور هداه ....أن عودوا إلى الله وأدركوا اللحاق بمسيرة ركب عباده الصالحين قبل فوات الأوان , فقطار شهر الخيرات والبركات والفيوضات الربانية والمنح الإلهية قد أطلق صفارة إنذار انطلاقه الأخيرة , وما على الفطن العاقل إلا الإسراع لحجز مقعد له في هذه الرحلة المباركة .