كثيرون هم الآباء الذين يشتكون من حال أبنائهم السلبي تجاه التزامهم دينيا وأخلاقيا وسلوكيا في فترة من فترات حياتهم , ويبحثون هنا وهناك عن حلول ناجعة لإصلاحهم , ويسألون القريب والخبير والمختص عن طريقة لتقويم اعوجاجهم , ويعبرون ببالغ الأسى والألم عن مدى حزنهم وحجم كربهم لرؤية أبنائهم على هذه الحال بعد الجهود التي يقولون أنهم بذلوها في سبيل هدايتهم وصلاحهم.....
في هذه المرحلة بالذات يطرق الآباء جميع الأبواب لإيجاد علاج لحال أبنائهم , ويجربون من الوسائل التربوية الحديثة والمعاصرة ما لا يمكن حصره أو عده , إلا أن كثيرا منهم قد يغفل عن طريقة هي من أفضل الطرق لإصلاحهم , و وسيلة من أكثر الوسائل المضمونة الأثر والنتيجة , ألا وهي : دعاء الآباء والأمهات المستمر لأبنائهم بالهداية والصلاح والرشاد .
والحقيقة أن مصدر غفلة الكثير من الآباء والأمهات عن مدى أهمية وأثر دعائهم لأبنائهم في استقامتهم وعدم اعوجاجهم أو انحرافهم قد يكون اعتمادهم على الأسباب والمسببات في تربيتهم فحسب , فتلاحظ أن لسان حال أحدهم حين تسأله عن عدد المرات التي يدعو فيها لأبنائه بالهداية والصلاح في صلاته أو قيامه أو خلواته في اليوم أو الأسبوع أو حتى الشهر يقول : وهل يحتاج ولدي إلى دعائي بعد أخذي بجميع الأسباب لصلاحه وهدايته ؟!!
نعم...لا شك ان الأخذ بأسباب صلاح الأبناء وهدايتهم من الأهمية والضرورة بمكان , بدءا بانتقاء الزوجة الصالحة والأم المربية المستقبلية , وصولا إلى اختيار الاسم الحسن وغرس أصول الإيمان في القلب في الصغر , وليس انتهاء بمتابعة الولد تربويا داخل الأسرة وخارجها وتبصيره بأهمية الالتزام بأوامر الله واجتناب نواهيه في كل خطوة يخطوها في هذه الحياة ..... إلا أن ذلك لا يعني بحال من الأحوال أن هذه الأسباب يمكن أن تغني عن ضرورة دعاء الآباء لأبناهم .
إن من يتتبع آيات كتاب الله تعالى وأحاديث وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع يمكنه أن يخرج بنتيجة مفادها : دعاء الآباء للأبناء هو منهج أنبياء الله تعالى والصالحين من عباده .
ولعل اللافت في هذا المنهج هو عدم اقتصاره على أوقات معينة دون أخرى , فها هو خليل الله ابراهيم عليه السلام يسأل الله تعالى الولد الصالح فيدعو ربه قائلا : { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } الصافات/100 , وكذلك دعا زكريا عليه السلام ربه أن يهب له ولدا وليا مرضيا يرث النبوة من أبيه ومن آل يعقوب فيقول : { .....فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا } مريم/5-6
ولم ينقطع دعاء الأنبياء لأبنائهم بعد أن استجاب الله تعالى لهم ورزقهم الولد , بل استمر ذلك الدعاء وازداد مع الأخذ بجميع أسباب حسن التربية والإصلاح , فهذا نبي الله ابراهيم عليه السلام يدعو لنفسه ولولده أن يجنبهم الله عبادة الأوثان , وأن يجعله وذريته من مقيمي الصلاة : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ } ابراهيم/35 , { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } ابراهيم/40 .
ولم يذكر القرآن الكريم دعاء الأنبياء لأبنائهم فحسب , بل فاض كتاب الله تعالى بأدعية زمرة من عباده المؤمنين الصالحين , فقد دعا الذي بلغ أربعين سنة فقال : {.... وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } الأحقاف/15 , كما دعا من وصفهم سبحانه بــ "عباد الرحمن" : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } الفرقان/74
وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لأولاده وأحفاده الحسن والحسين وأولاد الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين , فقد ورد في صحيح البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : ( ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ ) , وفي رواية أخرى في مسند الإمام أحمد بإسناد قوي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال : ( اللَّهُمَّ فَقِّهُّ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ ) , وفي صحيح البخاري أيضا عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهُ وَالْحَسَنَ وَيَقُولُ : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا ) .
ولم يخرج سلف هذه الأمة عن منهج القرآن الكريم والهدي النبوي في الدعاء للأبناء بالصلاح والتضرع إليه بتولي تربيتهم و تأديبهم رغم ما بذلوه من جهد في تنشئتهم على تعاليم الإسلام , فقد ورد أن الفضيل بن عياض - رحمه الله- كان يدعو لولده علي وهو صغير فيقول : "اللهم إنك تعلم أني اجتهدت في تأديب ولدي علي فلم أستطع، اللهم فأدبه لي" .
وفي العصر الحديث الكثير من النماذج الحية التي تؤكد مدى أهمية دعاء الوالدين لأبنائهم في صلاحهم وهدايتهم , فهذا أحدهم يسأل أحد الآباء الذي رزقه الله تعالى الكثير من الأبناء المعروفين بصلاحهم بشهادة كل من خالطهم وعاشرهم فيقول : ما سر صلاح أبنائك وهم كثر ؟!! فيقول : والله لا أترك الدعاء لهم .
فيا من يشتكي من الآباء والأمهات من سوء حال ولده وقلة التزامه بدينه أواضطراب في سلوكه وخلل في أخلاقه : إن الله تعالى قد جعل بين أيديكم سلاحا فعالا لصلاح أولادكم واستقامتهم , ومنحة ربانية لتقويم اعوجاج أحدهم إن اعوج , وتصحيح مسار طريقه إن ضل , وإعادته إلى الصراط المستقيم إن حاد عنه أو انحرف......فلا تبخلوا على أولادكم بالدعاء لهم .