في ذمة الله
30 رجب 1438
د. عامر الهوشان

وردت هذه العبارة - التي هي في الحقيقة منحة من أعظم المنح – في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدَبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِى ذِمَّةِ اللَّهِ فَلاَ يَطْلُبَنَّكُمُ اللَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَىْءٍ فَيُدْرِكَهُ فَيَكُبَّهُ فِى نَارِ جَهَنَّمَ ) صحيح مسلم برقم/1525 

 

 

وبينما اعتبر بعض العلماء أن هذه الفضيلة العظيمة تحصل لكل من صلى صلاة الصبح في وقتها ، حتى ولو لم يدرك الجماعة ، لعدم ورود التقييد بذلك في رواية مسلم وغيره من أصحاب الكتب الستة , ذهب بعض أهل العلم إلى أن فضيلة الدخول في ذمة الله تعالى المذكورة في هذا الحديث ، إنما تثبت لمن صلى الفجر في جماعة .

 

 

وممن قال بتقييد هذا الفضل بمن صلى الصبح جماعة الإمام النووي رحمه الله , حيث عنون الباب الذي فيه حديث "في ذمة الله" بصحيح مسلم بــ: باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة , وكذلك فعل المنذري في كتابه الترغيب والترهيب , كما أن الحافظ الإشبيلي ذكر الحديث في باب الجماعة في كتابه الجمع بين الصحيحين .

 

 

ويشهد لهذا التوجه رواية أخرى للحديث عن أبي بكرة رضي الله عنه : ( من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله فمن أخفر ذمة الله كبه الله في النار لوجهه ) مجمع الزوائد للهيثمي 5/70 وقال : رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح , وقال الألباني "صحيح لغيره" .

 

 

وسواء كانت هذه العطية من الله تعالى لمن صلى الصبح في جماعة أو في غير جماعة لعذر شرعي أو مانع , فإن ما يعنينا هنا هي تلك الميزات التي يختص بها من يصلي الغداة ولا يفوته ذلك الوقت المبارك دون أداء الفريضة والوقوف بين يدي الله سبحانه .

 

 

والحقيقة أنه لا يمكن إدراك أهمية هذه الميزة - وغيرها من خصائص وفضائل الالتزام بأداء فريضة صلاة الفجر في جماعة – إلا من وعى وأدرك معنى أن يكون في ذمة الله سبحانه .

 

 

قال النووي رحمه الله : الذمة : الضمان , وقيل : الأمان , وقد ذهب العلماء في تفسير معنى "في ذمة الله" مذهبين : 

 

 

أما الأول منهما فخلاصته : أن في الحديث نهي عن التعرض بالأذى لكل مسلم صلى الصبح , لأن من صلى الفجر فهو في أمان الله تعالى وعهده , فلا يجوز لأحد التعرض له بسوء أو أذى , ومن فعل وأخفر ذمة الله وضمانه , فإن الله يطالبه ويعاقبه على إخفار ذمته .

 

 

قال ابن الجوزي رحمه الله : معنى الحَدِيث: أَن من صلى الْفجْر فقد أَخذ من الله ذماما, فَلَا يَنْبَغِي لأحد أَن يُؤْذِيه بظُلْم ، فَمن ظلمه فَإِن الله يُطَالِبهُ بِذِمَّتِهِ . كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي ص345 

 

 

وقال القرطبي : "فهو في ذمّة الله" أي : في أمان الله ، وفي جواره ؛ أي : قد استجار بالله تعالى ، والله تعالى قد أجاره ، فلا ينبغي لأحد أن يتعرض له بضر أو أذى ، فمن فعل ذلك فالله تعالى يطلبه بحقه ، ومن يطلبه لم يجد مفرًّا ولا ملجأ , وهذا وعيد شديد لمن يتعرض للمصلين . المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي 6/68 

 

 

وأما أصحاب المذهب الثاني فيقولون : إن المقصود من الحديث التحذير من التهاون في صلاة الفجر , إذ إن تركها نقض للعهد الذي بين العبد وربه سبحانه , ومن هنا جاء في فيض القدير للمناوي نقلا عن الإمام البيضاوي : ويحتمل أن المراد بالذمة الصلاة المقتضية للأمان ، فالمعنى : لا تتركوا صلاة الصبح ولا تتهاونوا في شأنها ، فينتقض العهد الذي بينكم وبين ربكم ، فيطلبكم الله به ، ومن طلبه الله للمؤاخذة بما فرط في حقه أدركه ، ومن أدركه كبه على وجهه في النار ، وذلك لأن صلاة الصبح فيها كلفة وتثاقل ، فأداؤها مظنة إخلاص المصلي ، والمخلص في أمان الله . فيض القدير 6/164 

 

 

قد يكون توضيح معنى "في ذمة الله" كما بينه علماء الحديث وشراحه من الضرورة بمكان في هذا المقام , فقد ترسخ في أذهان الكثير من شباب الأمة معنى آخر غير ما سبق , ألا وهو : أن من صلى الفجر – سواء في جماعة أو لا – لا يمكن أن يصاب بأذى أو مكروه حتى يمسي لكونه في حفظ الله وأمانه وضمانه , وهو ما قد يتنافى مع حوادث تاريخية و واقعية وقع فيها قضاء الله تعالى وقدره من موت أو ابتلاء في عباد له صلوا الفجر في وقتها بل وفي جماعة .

 

 

ومع أهمية ما سبق من توضيح وبيان فإن الأهم هو حث المسلمين على مزيد من الحرص على صلاة الغداة , ودعوتهم للالتزام بأدائها في جماعة , لما في ذلك من منح ربانية و فوائد دنيوية أثبتها العلم الحديث لا يتسع المقال لذكر تفاصيلها .

 

 

يكفي صك البراءة من النفاق الذي أشار إليه الحديث النبوي لمن يحافظ على صلاة الفجر والعشاء , ففي الحديث عن أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ أَثْقَلَ صَلاَةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلاَةُ الْعِشَاءِ وَصَلاَةُ الْفَجْرِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا......) صحيح مسلم برقم/1514 

 

 

بل يكفي حافزا ودافعا للمسلم للحرص على صلاة الفجر في جماعة ما ورد في الحديث الصحيح عن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِى عَمْرَةَ قَالَ : دَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْمَسْجِدَ بَعْدَ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ فَقَعَدَ وَحْدَهُ فَقَعَدْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِى جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِى جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ ) صحيح مسلم برقم/1523 

 

 

هي إذن منح إلهية كثيرة وليست منحة واحدة , وفضائل وعطايا ربانية لمن يحافظ على صلاة الغداة في جماعة لا ينبغي أن يفرط بها مؤمن , فإذا كان العاقل في الدنيا لا يفوت فرصة أو عرضا خاصا يزيد من أرباحه ومكاسبه المادية , فمن باب أولى أن لا يفوت المسلم مثل هذه المنح والعطايا الإلهية دون اغتنام واستثمار .