"يبلغن عندك الكبر".. "كما ربياني صغيراً"
27 رجب 1438
أمير سعيد

 

"وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما"

 

إيجاز بليغ، وتقصد واضح في الآية الكريمة لمرحلتين عمريتين بالغتي الأهمية، الطفولة والشيخوخة، مقابلة لغوية يجمعهما اتفاق بين النقيضين، الكبر والصغر، باشتراك في حال الضعف والاحتياج.

 

لمس المعنى ذروة الاحتياج للإنسان، حين يبدأ حياته وحيث ينهيها، وفي كليهما لا يملك من أمره شيئاً.. يُخلق ضعيفاً ويرحل ضعيفاً واهناً، وهو في هاتين المرحلتين أحوج ما يكون لأقرب الناس إليه؛ فينبه القرآن إلى هذه المقابلة فيتذكر المرء احتياجه في الصغر ليرد الجميل للأبوين في حالة الحاجة الملحة عند الكبر. يقول الإمام القرطبي رحمه الله: "خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر ; فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل ، لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلا عليه ، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه ; فلذلك خص هذه الحالة بالذكر .

 

 

وأيضا فطول المكث يوجب الاستثقال للمرء عادة ويحصل الملل ويكثر الضجر فيظهر غضبه على أبويه وتنتفخ لهما أوداجه، ويستطيل عليهما بدالة البنوة وقلة الديانة، وأقل المكروه ما يظهره بتنفسه المتردد من الضجر. وقد أمر أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة، وهو السالم عن كل عيب فقال:{ فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما }.".. فكان تركيز القرآن على هذه الحالة التي يتراجع عندها البر، ويقصر فيها الأبناء، ولهذا خص هذه الحالة بالبيان ; "لأنها مظنة انتفاء الإحسان بما يلقى الولد من أبيه وأمه من مشقة القيام بشئونهما ، ومن سوء الخلق منهما. ثم ارتقى في الوصاية بالوالدين إلى أمر الولد بالتواضع لهما تواضعا يبلغ حد الذل لهما ; لإزالة وحشة نفوسهما إن صارا في حاجة إلى معونة الولد ; لأن الأبوين يبغيان أن يكونا هما النافعين لولدهما ، والقصد من ذلك التخلق بشكره على إنعامهما السابقة عليه ." كما يقول الطاهر بن عاشور رحمه الله.

 

 

يبدو البر يسيراً في كثير من الأحوال حين يكون الوالدان في كامل صحتيهما، حينما يستغنيان عن أبنائهما، ويزداد سهولة حينما يستقل الأبناء بمنازل أخرى ويؤسسون أسراً جديدة، حالئذ لا يتكلف الأبناء كثيراً إذ يختزلون برهم زيارات ولقاءات وتلطف لا يتعب صاحبه، بل أحياناً يزيده قيمة ومكانة عند أنسبائه الجدد! لا يقع الأبناء في تلك الحالة في امتحان عصيب؛ فالآباء لا يحتاجون، وهم مع هذا قد تراجعت سلطتهم على الأبناء بحيث لم يعودوا يمثلون "سلطة" بالمعنى المعروف عند الصغر؛ فلا التزامات كثيرة يضطر إليها الأبناء في مراعاتهم لمطالب ورغبات آبائهم؛ فمعظم الآباء يستحون من توجيه أبنائهم على النحو الذي كانوا يوجهونه فيما مضى.

 

 

إنما يكمن الامتحان الحقيقي في فترات الضعف الأخيرة، حين تتحول كفة الميزان باتجاه قوة الأبناء وضعف الآباء، بما يستتبعه هذا الضعف من ثقلة بعض التبعات والحاجات التي تضع الأبناء أمام استحقاق البر الحقيقي غير الزائف أو المصطنع. عند هذه الحالة يوصي القرآن بالبر، عندها يقول – كما ينص الطبري رحمه الله - : "ادع الله لوالديك بالرحمة ، وقل رب ارحمهما ، وتعطف عليهما بمغفرتك ورحمتك، كما تعطفا علي في صغري، فرحماني وربياني صغيرا ، حتى استقللت بنفسي، واستغنيت عنهما".. ولا يستقوي على البر سنوات الابتلاء إلا من يرجع بالذاكرة طويلاً إلى الوراء، حال ضعفه هو، وحاجته هو، يقول صاحب الظلال: "هي الذكرى الحانية، ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الولدان، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان. وهو التوجه إلى الله أن يرحمهما فرحمة الله أوسع، ورعاية الله أشمل، وجناب الله أرحب. وهو أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء"

 

 

كلمات القرآن فريدة بليغة، توجز أرفع درجات البر حين اشتداد الحاجة في سنوات الشيخوخة، وتذكر بأكثر الأوقات احتياجاً من الأبناء عند الطفولة، وينفر من كل ألوان العقوق ولو بكلمة "أف" المختزلة لكل مستويات الرفض والمعبرة عن أدناها؛ فإذا كان التأفف هكذا مذموم فما يجاوزه من باب أولى، وإذا كان البر في حالة الشيخوخة المنفرة للبعض فهي فيما يسبقها من باب أولى، وإذا كان تذكر عطاء الآباء مندوب فتذكره في حالة ضعف الطفولة من باب أولى.

 

 

وما بين "الصغر" و"الكبر" يتعين اتصال البر أبداً عرفاناً بذروة العطاء من الآباء حال صغر الأبناء، ووفاء للآباء حتى ممات الأبناء.