ليس أغلى عند امرىء من نتاج حياته ومعناها وكنوزها ومدخراتها وخبراتها ، تلكم الي يجمعها في ثوب قشيب ثم يهديها كنصيحة لمن يحب ..
تلكم هي النصية الصادقة التي تخرج من قلب محب لآخر غال عليه قريب منه عزيز عليه ..
إنها هبة الصدق ، وعناية القلب ، وإرادة الخير للمنصوح ، والرغبة في إفادته ، والإخلاص في بذل الجهد له .
كيف لا وهي وظيفة اساسية من وظائف الأنبياء ، نوح ، " أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ " ، هود ، " أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ " ، صالح ، " يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ " ، شعيب ، " لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ " ... عليهم السلام جميعا ..
بل هي عماد الرسالة الإسلامية " الدين النصيحة " رواه مسلم ، قال النووي : "هذا حديثٌ عظيم الشَّأن، وعليه مَدارُ الإسلام "
بل إن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أخذ البيعةَ عليها؛ فعن جَرِير بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: "بايعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على إقام الصَّلاة وإيتاء الزَّكاة، والنُّصح لكلِّ مسلم"؛ رواه البخاريُّ ومسلمٌ
قال الحسَنُ البصريُّ : "ما زال لله ناسٌ يَنصحون لله في عباده، ويَنصحون لعباد الله في حقِّ الله عليهم، ويَعملون له في الأرض بالنَّصيحة، أولئك خُلفاء الله في الأرض"
وقال ابن بطَّال " والنَّصيحة فرضٌ يُجْزِئ فيه مَن قام به، ويَسقط عن الباقين، والنَّصيحة لازمةٌ على قَدْر الطَّاقة إذا علم النَّاصحُ أنه يُقبل نصحُه، ويُطاع أمْرُه، وأَمِن على نفسه المكروه، وأمَّا إن خشي الأذى فهو في سعةٍ منها " شرح البخاري
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم : " حَقُّ المسلم على المسلم ستٌّ، (ومنها ) .. وإذا استنصحك فانصَح له " رواه مسلم.
والاصل في النصيحة ، كما في اي عمل صالح ، أن تكون مخلصة صادقة ، وقد وصفها ابن رجب وصفا جامعا فقال : " وأما النصيحة للمسلمين : فأن يحب لهم ما يحب لنفسه ، ويكره لهم ما يكره لنفسه ، ويشفق عليهم ويرحم صغيرهم ، ويوقر كبيرهم ، ويحزن لحزنهم ، ويفرح لفرحهم ، وإن ضره ذلك في دنياه ، كرخص أسعارهم ، وإن كان في ذلك فوات ربح ما يبيع في تجارته ، وكذلك جميع ما يضرهم عامة ، ويحب ما يصلحهم ، وألفتهم ، ودوام النعم عليهم ، ونصرهم على عدوهم ، ودفع كل أذى ومكروه عنهم . وقال أبو عمرو بن الصلاح : النصيحة كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادةً وفعلاً " انتهى من "جامع العلوم والحكم" جامع العلوم
وأن تكون برفق وحسن أدب ، قال الغزالي : ودليل الرفق في النصيحة قوله تعالى لموسى وهارون :" فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى "
وأن يختار لها حسن الكلام ، قال سبحانه: " وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ "
وأن تكون سرا ، قال الشافعي : " من وعظ أخاه سرًّا، فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية، فقد فضحه وشانه "
وقال ابن رجب: " كان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد، وعظوه سرًّا حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه، فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبَّخه "
وألا تكون بشرط القبول ، قال ابن حزم : " لا تنصح على شرط القبول منك، فإن تعديت هذه الوجوه، فأنت ظالم لا ناصح، وطالب طاعة لا مؤدي حق ديانة وأخوة، وليس هذا حكم العقل ولا حكم الصداقة "
ونصح الإمام مالك هارون الرشيد فقال له : " إنِّي كتبتُ إليك بكتاب لَم آلُكَ فيها رشدًا، ولم أدَّخِر فيها نصحًا؛ تحميدًا لله، وأدبًا عن رسول الله، فتدبَّرْه بعقلك، وردِّد فيه بصرَك، وأَرْعِه سمعك، ثُمَّ اعقله قلبك، وأحضر فهمك، ولا تغيبن عنه ذهنك؛ فإنَّ فيه الفضلَ في الدُّنيا، وحُسْنَ ثواب الله في الآخرة، اذكر نفسك في غمرات الموت، وكربة ما هو نازلٌ لديك منه، وما أنت موقوف عليه بعد الموت من العرض على الله سبحانه، ثم الحساب، ثم الخُلود بعد الحساب .. "
وقال هارون بن عبد الله : " جاءني أحمد بن حنبل بالليل فدقَّ عليَّ الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أنا أحمد، فبادرت أن خرجت إليه، فمسَّاني ومسَّيته، قلت: حاجة يا أبا عبد الله؟ قال: نعم، شغلت اليوم قلبي، قلت: بماذا يا أبا عبد الله؟ قال: جزت عليك اليوم وأنت قاعد تحدث الناس في الفيء، والناس في الشمس بأيديهم الأقلام والدفاتر، لا تفعل مرة أخرى، إذا قعدت فاقعد مع الناس " ..